للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الضحاك، وابن جريج: إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه، قيل: وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل، ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول: اللهم تصدق على أن الله تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني فقد رد

بقوله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته»

وأجيب عنه مجازا ومشاكلة، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفى، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطى بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها، والظاهر كما قال الزمخشري: أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم: مَسَّنا إلخ وطلبوا إليه أن يتصدق عليهم بقولهم: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ بذكر الله تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان.

قال النقاش: وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا وروي مثله عن الضحاك، ووجه عدم بدئهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملؤوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهم غرض أبيهم، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال: على أن قولهم وَتَصَدَّقْ إلخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك قالَ مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي هل علمتم قبح (١) ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا؟ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الاخوتين أيضا والتلطف في أسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف، قيل: ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب بنيامين، بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال.


(١) قيل الكلام على حذف مضاف وقيل هو كناية عما ذكر فافهم اه منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>