للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل، على أنه لو كان كذلك لذكره صلّى الله عليه وسلّم ولو مرة وأين الدليل على الذكر؟ وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الإتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وإن قيل إن هذه الدعوى مجرد احتمال، قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا، وأما ما روي عن ابن المدرك فلا نسلم ثبوته عنه، وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها، ومن أنصف يعلم أن حضوره عليه السلام يوم

قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد رضي الله تعالى عنه: ارم فداك أبي وأمي

كان أهم من حضوره مع ابن المبارك، واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة، وأما ما ذكروه في معنى الحديث فلقائل أن يقول: إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهملوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ، وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر حينئذ، وأيّا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه السلام له وجه، فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهد من يعبده تعالى بعد والخضر عليه السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم. وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: ٣٤] بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول: إنه يقاتل الدجال ويموت، ومنهم من يقول: إنه يموت زمان رفع القرآن، ومنهم من يقول: إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما.

وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى خالِدِينَ فِيها أَبَداً [النساء: ٥٧ وغيرها] حقيقة في طول المكث لا في دوام البقاء فإن الظاهر التأسيس لا التأكيد، وقد قال الراغب: كل ما يتباطأ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوامها وبقائها انتهى.

وأنت تعلم قوة الجواب لأن المكث الطويل ثبت لبعض البشر كنوح عليه السلام. وأجابوا عما نقل عن ابن الجوزي من الوجوه العقلية، أما عن الأول من وجهي فساد القول بأنه ابن آدم عليه السلام بعد تسليم صحة الرواية فبأن البعد العادي لا يضر القائل بتعميره هذه المدة المديدة لأن ذلك عنده من خرق العادات، وأما على الثاني فبأن ما ذكر من عظم خلقة المتقدمين خارج مخرج الغالب وإلا فيأجوج ومأجوج من صلب يافث بن نوح وفيهم من طوله قدر شبر كما روي في الآثار، على أنه لا بدع في أن يكون الخضر عليه السلام قد أعطى قوة التشكل والتصور بأي صورة شاء كجبريل عليه الصلاة والسلام، وقد أثبت الصوفية قدست أسرارهم هذه القوة للأولياء ولهم في ذلك حكايات مشهورة، وأنت تعلم أن ما ذكر عن يأجوج ومأجوج من أن فيهم من طوله قدر شبر بعد تسليمه لقائل أن يقول فيه: إن ذلك حين يفتح السد وهو في آخر الزمان ولا يتم الاستناد بحالهم إلا إذا ثبت أن فيهم من هو كذلك في الزمن القديم، وما ذكر من إعطائه من قوة التشكل احتمال بعيد وفي ثبوته للأولياء خلاف كثير من المحدثين. وقال بعض الناس: لو أعطى أحد من البشر هذه القوة لأعطيها صلّى الله عليه وسلّم يوم الهجرة فاستغنى بها عن الغار وجعلها حجابا له عن الكفار، وللبحث في هذا مجال. وعن الثاني من الوجوه بأنه لا يلزم من عدم نقل كونه في السفينة إن قلنا بأنه عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام عدم وجوده لجواز أنه كان ولم ينقل مع أنه يحتمل أن يكون قد ركب ولم يشاهد وهذا كما ترى. وقال بعض الناس: إذا كان احتمال إعطاء قوة التشكل قائما عند القائلين بالتعمير فليقولوا: يحتمل أنه عليه السلام قد تشكل فصار في غاية من الطول بحيث خاض في الماء ولم يحتج إلى الركوب في السفينة على نحو ما يزعمه أهل الخرافات في

<<  <  ج: ص:  >  >>