لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا.
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك- فمسلمين- إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر (١) وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا عطف على الضمير المنصوب في اجْعَلْنا وهو في محل المفعول الأول وأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ في موضع المفعول الثاني معطوف على مُسْلِمَيْنِ لَكَ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا- الذرية- بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: ٦] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ [الصافات: ١١٣] أو من قوله عز شأنه: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ باعتبار السياق ان في- ذريتهما- ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى: وَابْعَثْ إلخ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون أُمَّةً المفعول الأول وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها- ومسلمة- المفعول الثاني وكان الأصل- واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك- فالواو داخلة في الأصل على أُمَّةً وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، ومِنْ عند بعضهم على هذا بيانية على حد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور: ٥٥] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون مِنْ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وَأَرِنا مَناسِكَنا قال قتادة: معالم الحج، وقال عطاء. وابن جريج: مواضع الذبح، وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة، وأَرِنا من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان