لما ذكر أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة وبيان كل شيء فيه على الوجه المعروف لنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة. وإذا أريد بكل شيء الأشياء التي في هذه النشأة وأفعال العباد وأحوالهم فيها فلا إشكال في البيان على الوجه المعروف دفعة.
والذي يترجح عندي أن ما كتب في اللوح ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهو متناه وبعض الآثار تشهد بذلك والمطلق منها محمول على المقيد، وحقيقة اللوح لم يرد فيها ما يفيد القطع ولذا نمسك عن تعيينها، وكون أحد وجهيه ياقوتة حمراء والثاني زمردة خضراء جاء في بعض الآثار ولا جزم لنا بصحته، وكونه أحد المجردات وما من شيء إلا وهو يعلمه بالفعل مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وإنما هو من تخيلات الفلاسفة ومن حذا حذوهم فلا ينبغي أن يعول عليه، وفسر بعضهم الإمام المبين بعلمه تعالى الأزلي كما فسر أم الكتاب في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: ٣٩] به وهو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه كما يلوح به قول الشافعي:
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
ووصفه بمبين لأنه مظهر فقد قالوا: العلم صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أو لأن إظهار الأشياء من خزائن العدم يكون بعد تعلقه فإن القدرة إنما تتعلق بالشيء بعد العلم فالشيء يعلم أولا ثم يراد ثم تتعلق القدرة بإيجاده فيوجد، ولا يخفى ما في هذا التفسير من ارتكاب خلاف الظاهر وعليه فلا كلام في العموم، نعم في كيفية وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محله كتب الكلام. وعن الحسن أنه أريد به صحف الأعمال وليس بذاك. وحكي لي عن بعض غلاة الشيعة أن المراد بالإمام المبين علي كرّم الله تعالى وجهه وإحصاء كل شيء فيه من باب:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ومنهم من يزعم أن ذلك على معنى جعله كرّم الله تعالى وجهه خزانة للمعلومات على نحو اللوح المحفوظ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الجهل بالكتاب الجليل نسأل الله تعالى العفو والعافية، ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا بذلك نحو ما أراده المتصوفة في إطلاقهم الكتاب المبين على الإنسان الكامل اصطلاحا منهم على ذلك فيهون أمر الجهل، وكمال علي كرّم الله تعالى وجهه لا ينكره إلا ناقص العقل عديم الدين.
وقرأ أبو السمال «وكلّ» بالرفع على الابتداء وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إما عطف على ما قبله عطف القصة على القصة وإما عطف على مقدر أي فأنذرهم واضرب لهم إلخ، وضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بأخرى مثلها كما في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ [التحريم: ١٠] الآية.
وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: ٤٥] في وجه أي بينا لكم أحوالا بديعة هي في الغرابة كالأمثال. فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب أي طبق حالهم بحالهم على أن مَثَلًا مفعول ثان لا ضرب وأَصْحابَ الْقَرْيَةِ مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه، وعلى الثاني اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل، وقوله سبحانه أَصْحابَ الْقَرْيَةِ بتقدير مضاف أي مثل أصحاب القرية وهذا المضاف بدل من مَثَلًا بدل كل من كل أو عطف بيان له على القول بجواز اختلافهما تعريفا وتنكيرا، وجوز أن يكون المقدر مفعولا وهذا حالا.
والقرية كما روي عن ابن عباس وبريدة وعكرمة أنطاكية، وفي البحر أنها هي بلا خلاف.