للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولو أردنا أن ننظم ما في الآية من الاستدلال على نمط كلام الفقهاء لقلنا: لا يخلو الأمر من ثلاثة احتمالات: إما أن يكون الناس خلقوا هكذا من غير خالق، أو يكونوا قد خلقوا أنفسهم، أو يكون خالقهم هو الله. فالأولان باطلان عقلا، فلم يبق إلا الثالث. والقرآن حين يستدل على وجود الله وإثبات أنه الخالق لا يكون ذلك غاية مقصوده ونهايتها؛ لأن العرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يؤمنون بأن الله هو الخالق، ولكن يؤكد لهم هذه الحقيقة ليصل منها إلى أن الله وحده هو المستحق للعبادة.

وهذا التقرير يدل على أن الاستدلال بالسبر والتقسيم لا يقتصر على إثبات العلة، بل يصلح استعماله للدلالة على أي مدعى متى أمكن حصر الاحتمالات واتفق عليها.

وهو راجع إلى القياس الاستثنائي؛ لأن المستدل يذكر الاحتمالات التي لا يخرج عنها موضع النزاع ثم يبين بطلانها كلها إلا واحدا، ويستعمل في إثبات بطلانها القياس الاستثنائي، فيقول لو كان كذا لكان كذا، لكن لم يكن فثبت بطلان هذا الاحتمال.

مثال توضيحي: أن يقول الشافعي: تحريم التفاضل في بيع البر بالبر معلل باتفاق، والعلة إما أن تكون الكيل أو الاقتيات والادخار أو الطعم، لا يصلح أن تكون العلة هي الكيل؛ إذ لو كان الكيل علة لما وقع الربا في القليل مما لا يكال، كالحفنة بحفنتين، لكنه واقع بدليل عموم الأدلة الدالة على تحريم الربا، وموافقة أكثر الخصوم عليه، ولو كان الاقتيات لما كان الملح من الربويات لكنه منها بنص الحديث: «والملح بالملح»، فلم يبق إلا أن يكون الطعم هو العلة.

<<  <   >  >>