فأما بناء القياس على الحكمة غير المنضبطة فغير ممكن عند جماهير العلماء، وأما إثبات الحكم بطريق الاستصلاح فالصواب جوازه كما سيأتي في بابه.
وقد تكرر إطلاق الانضباط والحكمة المنضبطة، ولعل بعض الدارسين لا يدرك المقصود به على حقيقته.
ولإيضاح ذلك أقول: الحكمة: معنى من المعاني يقوم بذهن الفقيه، يفهمه من نص واحد أو نصوص متعددة، فيقول مثلا: الحكمة من قتل القاتل حفظ النفوس؛ لأن المقدم على القتل إذا عرف أنه لو قَتَل قُتِل امتنع عن القتل.
وهذه الحكمة (حفظ النفوس) إذا لم يوضع لها ضابط معين يحدد الوصف أو الأوصاف التي يكون القتل فيها وسيلة لحفظ النفوس فربما قال قائل: ينبغي أن نقتل من هَمَّ بالقتل أو حث عليه أو شجع القاتل على فعله، أو ناوله سلاحا ليقتل به غيره، أو نمنع صناعة الآلات الحادة القاتلة، وهكذا.
أقول: لو تركت هذه الحكمة بلا ضابط لأدّى ذلك إلى ما ذكرنا وزيادة، ولكن الفقهاء وضعوا ضابطا لهذه الحكمة، فقصروا القتل الذي يؤدي إلى حفظ النفوس على القاتل عمدا عدوانا، فهذا الضابط يسمى العلة، وهي مشتملة على الحكمة ولكنها مقيدة ومحددة بما يؤدي إلى حفظ النفوس من القتل، ولهذا قالوا علة القصاص: القتل عمدا عدوانا، ولم يقولوا حفظ النفوس، بل جعلوا حفظ النفوس هو الحكمة التي لأجلها شرع القصاص، وهذه الحكمة ليست على إطلاقها، بل ضبطت بضابط وهو اقتصار القتل على من قَتَلَ عمدا عدوانا، فلا تحفظ النفوس بقتل من همَّ بالقتل أو شجع عليه أو رضيه، وإنما تحفظ بقتل القاتل، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة١٧٩].
والعلة يدور الحكم معها وجودا وعدما، فإذا وجدت وجد الحكم وإذا عدمت عدم الحكم إذا لم يكن له علة سواها، فإن كان للحكم علة أخرى فلا