[حكم من مات ولم يحج وله مال وعليه دين]
فإن كان هناك دين آدمي وضاقت التركة عنها قدم دين الآدمي وسقط عنه الحج، وهذا ليس اتفاقاً، ولكن هذا هو الاختيار في هذه المسألة.
يقول ابن قدامة: يحتمل أن يسقط عمن عليه دين وجهاً واحداً؛ لأن حق الآدمي المعين أولى بالتقديم لتأكده.
ويقول الإمام النووي: إن كان هناك دين آدمي وضاقت التركة عنهما ففيه أقوال ثلاثة: أصحها يقدم الحج، والثاني: دين الآدمي، والثالث: يقسم بينهما، وهذا كله إذا كان للميت تركة.
فإن ترك الميت مالاً وعليه دين لآدمي وعليه أيضاً فريضة الحج، فأي الاثنين يقدم؟ هل يقدم دين الآدمي أو يقدم دين الله سبحانه؟ الذي يقول: يقدم الحج -وهو الأصح عند الشافعية- قالوا: هذا دين الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم.
قال: فدين الله أحق بالقضاء)، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن دين الله أحق، لكن في مسألتنا دين لآدمي يشح بماله، والآدمي فيه بخل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:١٢٨]، ودين الله سبحانه وتعالى حق لله سبحانه، والله يعفو ويصفح سبحانه وتعالى، فإذا كان عليه دين لآدمي، وعليه حج والحج يكلفه عشرة آلاف، والمال الذي تركه لا يكفي الاثنين، فقال بعض الفقهاء: يقدم دين الله باعتبار الحديث، لكن لو قدمنا دين الله لصار الآدمي الشحيح محتاجاً يدعو على هذا الميت الذي أخذ ماله وتوفي وهو عنده، فهنا الآدمي أولى والله كريم سبحانه وتعالى، ويعفو سبحانه عن عباده، أما الآدمي فسوف يطالب بدينه، فنكون قد أتلفنا مال الآدمي من أجل عبادة من العبادات قصر الميت فيها، والتقصير فيها يحاسبه الله عز وجل عليه، وقد يعفو عنه سبحانه، لكن دين الآدمي لن يسامح فيه ويظل الميت يعذب بهذا الدين في قبره حتى يقضى عنه الدين؛ ولذلك اختار الحنابلة أنه قد يسقط دين الله وهو الحج لأنه غير مستطيع، والمال لا يكفي ما عليه من دين.
أما الشافعية فقالوا: الأصح من ثلاثة أقوال: أنه يقدم دين الله وهو الحج، وبعض الفقهاء يقول: يتحاصى بالحصص، ومثله إنسان توفي وعليه ديون لأناس وترك مالاً لا يفي بالدين كله، فيتوزع المال حصصاً، ويسمونها: أسوة الغرماء، فلو ترك عشرة آلاف وعليه ديون عشرون ألفاً هذا يريد خمسة، وهذا يريد أربعة، وهذا يريد كذا وهذا يريد كذا، إذاً يعطى كل واحد منهم نصف الدين الذي له، قالوا: فكذلك هنا تعطى حصة لدين الآدمي، وحصة للحج، وينظر أقل ما يكلفه، وأقل تكلفة للحج ستكون من مكة أي: حجة مكية، فيعطى بقدرها والباقي يأخذه الغرماء، لكن الراجح في ذلك أن الله سبحانه تبارك وتعالى يتجاوز عن عباده ويعفو عنهم، فحق الآدمي مبناه على شح الآدمي وعلى بخله، فيقدم حق الآدمي على العبادة هنا فيعطى للآدمي حقه، ثم بعد ذلك إن فاض شيء فيحج عنه وإلا فليس بالاستطاعة.
إذاً: هذا الأرجح في المسألة: أنه إذا كانت التركة قليلة ولا تكفي إلا أحد الدينين فيبدأ بدين الآدمي.
إذاً: لو استقر عليه الحج ومات ولم يحج ولا تركة له مات عاصياً وبقي الحج في ذمته، ولا يلزم الوارث الحج عنه، لكن يستحب، والحج كثير من الناس يقصر فيه ويسوف، ويقول: في وقت قريب سأحج، فلا هو حج ولا ظهر من نيته أنه يريد الحج، فيا ترى! لو مات الإنسان كيف سيموت؟ يقول الفقهاء: لو مات مات عاصياً، هذا الذي معه مال وقدر على الحج وأخر سنة وراء سنة ولا يريد أن يحج فإنه يموت عاصياً، ويحاسب على ذلك عند الله عز وجل؛ لأنه فرط ومرت سنة وراء سنة وأنفق المال بسفه ولم يحج حتى مات وقد استقر الحج في ذمته، وهو الذي أتلف مال نفسه ومات عاصياً لله سبحانه وبقي الحج في ذمته، لكن هل يلزم الورثة أن يحجوا عنه؟ لا يلزم الورثة أن يحجوا عنه؛ لأنه لم يترك مالاً، لكن لو ترك مالاً فيلزم الورثة أن يحجوا عنه، أو أن يحججوا من يحج عنه بماله الذي تركه.
فإن حج عنه الوارث بنفسه أو استأجر من يحج عنه سقط الفرض عن الميت سواء كان أوصى به أم لا، وهذا الراجح: أن المتوفى إذا وجب عليه الحج سواء أوصى الورثة بذلك أو لم يوص فيجوز أن يحجوا عنه من ماله، فيحج عنه أحدهم أو يحججون آخر من ماله؛ لأن المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمها أنها لم تحج قط قال: (حجي عنها)، ولم تقل: كانت مستطيعة أو غير مستطيعة، ,هل أوصت أو لم توص بهذا الشيء، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال فنزل منزلة العموم من المقال.
ولو حج عنه أجنبي جاز سواء أذن له الوارث أم لم يأذن، كما يقضي دينه بغير إذن الوارث ويبرأ الميت به، وقد ذكرنا أنه فرق بين المعضوب وبين المتوفى، والمعضوب: هو الذي مرض مرضاً مزمناً يضعفه عن الحج ولا يستطيع الحج، ويكون عليه في ذلك مشقة شديدة جداً، فلو أراد إنسان أن يحج عنه فلا بد من إذنه؛ لأن له أهلية وله إذن بخلاف المتوفى فلا إذن له، فعلى ذلك سواء أوصى المتوفي أو لم يوص فإنه يجوز أن يحج عنه القريب أو الغريب، أما الحي المعضوب فلا يحج عنه إلا بإذنه لا بد من نيته في ذلك.