[جواز التحلل بعد العمرة لمن لم يسق الهدي]
قال جابر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة) يعني: يتحلل، وقال لهم هذا الشيء بعد ما صار على الصفا، وكأنه كررها صلى الله عليه وسلم لهم حتى يبلغ بعضهم بعضاً، وحتى يبلغ الأمر للجميع أن يفعلوا ذلك.
في رواية في الصحيحين عن جابر قال: (إنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردين، فقال لهم: أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة، وقصروا ثم أقيموا حلالاً، حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج، واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله، فافعلوا).
يعني: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجعلوا هذه التي قدموا بها عمرة، مع أنهم نووا الحج، وبين لهم أن يفعلوا هذا الشيء، وقال لهم: أنا كنت أود أن أفعل ذلك، ولكني سقت الهدي.
قال صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة)، يعني من كان معه الهدي وقد لبى بالحج فليس له أن يتحلل، فقد لبى بالحج والعمرة فليس له أن يتحلل، وإنما الذي له أن يتحلل هو من لم يسق الهدي، فإذا كان لبى بالحج فله أن يتحلل ويجعلها عمرة.
وإذا لبى قارناً ولم يكن معه هدي فله أيضاً أن يتحلل ويجعلها عمرة، وإذا لبى متمتعاً يعني: لبى بالعمرة وساق الهدي فله أيضاً أن يتحلل، فالهدي ليس هو الذي يلزم المتمتع أن يظل على إحرامه، إنما الذي يلزمه ذلك هو ما نواه في البداية، فإذا نوى الإفراد أو نوى القران وقد ساق الهدي معه فيظل على إحرامه، وقد فصلنا ذلك المرة السابقة.
قال: (فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج -مرتين- لا بل لأبد الأبد).
المعنى: إن العمرة دخلت في الحج للأبد، فلك أن تحج قارناً ليس هذا العام ولكن لأبد الأبد، قال الإمام النووي: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، أي: ما هو معنى قوله: (دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد)؟ قال: اختلفوا على أربعة أقوال، أصح هذه الأقوال: ما قال به جمهور العلماء: معناه: أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة.
والمقصود به: بيان إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج.
قلنا: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فهدم الإسلام هذا الذي كانوا يقولونه، وأمرهم بأن يؤدوا العمرة في أشهر الحج، وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمره كلها في أشهر الحج في ذي القعدة ثلاث عمر وعمرته مع حجته صلوات الله وسلامه عليه بذي الحجة.
إذاً: قوله: (دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد)، يعني: أنه يجوز لك في أشهر الحج أن تعتمر ثم تتحلل ثم تحج أو تقرن بين الاثنين، وهذا المعنى الثاني -وهو جواز القران- فعله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه عمل أعمالاً للحج هي لحجه ولعمرته صلوات الله وسلامه عليه، فدخلت العمرة في الحج لأبد الأبد.
هذان معنيان صحيحان لهذا القول منه صلى الله عليه وسلم.
المعنى الثالث: تأويل بعض من فسره بأن العمرة ليست واجبة، قالوا: إن قوله: (دخلت العمرة في الحج)، يعني: الحج يغني عن العمرة، والعمرة ليست واجبة، فقالوا: معناه: سقوط وجوب العمرة، ودخولها في الحج.
قال الإمام النووي: وهذا ضعيف أو باطل.
فالعمرة الراجح فيها من أقوال أهل العلم أنها واجبة، كما جاء ذلك في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قدمناها قبل ذلك، ومن ذلك ما جاء عن عمر من قوله: هديت لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الرجل: (حج عن أبيك واعتمر)، وفي هذا دلالة على أن العمرة واجبة.
وهناك تأويل رابع تأوله بعض أهل الظاهر وهو جواز فسخ الحج إلى العمرة، فقوله: (دخلت العمرة في الحج)، معناه: جواز فسخ الحج إلى العمرة.
وهنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل هذا كله، فيحتمل جواز فسخ الحج إلى عمرة، فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ، وأمره لهم أمر لغيرهم أيضاً، فمن أهل بالحج مفرداً فإذا طاف بالبيت يجوز له أن يفسخ ذلك ويجعله عمرة ويصير متمتعاً، ثم بعد ذلك يهل بالحج في أيام الحج لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
فـ سراقة بن مالك بن جعشم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحال الآن، فهم كانوا أهلوا بالحج، فلما أمرهم صلى الله عليه وسلم بأن يجعلوها عمرة، فسأله: هذه العمرة هل هي لنا الآن، أو أنها على طول؟ كأنه يسأل: هذا الفسخ لنا أو لنا ولغيرنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، بل لأبد الأبد) يعني: ليس أنتم فقط، بل أنتم ومن بعدكم، فكأن الحديث احتمل معاني منها: أن العمرة في أشهر الحج جائزة، أي: أن القران جائز، والعمرة في الحج، يعني: أنك إذا نويت الحج وطفت بالبيت جاز أن تجعلها عمرة، فدخلت العمرة في الحج، ثم تهل بالحج بعد ذلك.
فهذه ثلاث معان صحيحة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.