[حكم الفرع والعتيرة]
ولا يجب لا الفرع ولا العتيرة، والتقرب إلى الله عز وجل هذا شيء عظيم، فتتقرب إلى الله عز وجل في أي شهر من الشهور، وليس شرطاً في هذه الأشهر، فتتقرب إلى الله بالصدقة، وتتقرب إلى الله بالنسك والذبح، هذا كله جائز، لكن هل لابد أن تفعل هذه الأشياء التي كان يفعلها أهل الجاهلية ثم فعلها بعض المسلمين بعد ذلك، أم أن أمرها قد نسخ، أم ما هو حكمها؟ جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع ولا عتيرة)، وهذا نفي للجنس، (لا فرع) أي: ليس في الإسلام فرع ولا عتيرة؛ لأنه كان من فعل أهل الجاهلية، أو المعنى: ليس في الإسلام ما كان يصنعه أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يذبحون لأصنامهم، وفي الإسلام لا يوجد مثل ذلك، ولكن اذبح لله في أي شهر.
ومعنى آخر: (لا فرع ولا عتيرة) أي: واجبة، وقد بين الله عز وجل لنا الصدقات الواجبة، وكيف تقسم، وكيف توزع على أصحابها، فالمال ليس فيه حق إلا الزكاة التي فرضها الله سبحانه إلا أن يحتاج الناس فيتكافلون فيما بينهم.
فتكون الزكاة بينت الواجبات الأخرى، فما كان واجباً قبل ذلك من أشياء فقد جاءت الزكاة وبينت النصاب الذي يكون في المال، وفي أجناس المال وأنواعه، وكيف تخرج هذه الزكاة، وعلى من توزع.
ولذلك نقول: لا بأس بالفرع والعتيرة في رجب وفي غيره شكراً لله وتعبداً, فهذا كله لا بأس به طالما أنه فعل لله سبحانه، فتشكر الله عز وجل على ذلك، والدليل: ما رواه أبو داود وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمسين شاة شاة)، فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقد ذكرنا قبل ذلك زكاة المال وزكاة بهيمة الأنعام، وأن الأغنام من بهيمة الأنعام التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها قدراً معيناً، وقوله: (في كل خمسين شاة شاة) يحتمل الزكاة ويحتمل غيرها، وفي لفظ لـ أحمد: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع)، وعليه فليس المراد به الزكاة.
وأيهما يكون متقدماً حديث أبي هريرة أم حديث عائشة؟ لو قلنا: حديث أبي هريرة هو الأول، فيكون معناه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يفعل في الجاهلية من فرع وعتيرة، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم بحديث عائشة رضي الله عنها، فقد كانوا في الجاهلية يفعلونه، ثم منع، ثم أبيح وهذا محتمل، ولكن الاحتمال الأقرب: أن يكون حديث عائشة رضي الله عنها جرى على ما كانوا عليه، ثم بعد ذلك جاء حديث أبي هريرة فمنع، وهذا هو الأرجح؛ لأن أبا هريرة كان إسلامه متأخراً، بعد العام السابع في خيبر، ومعناه: أنه سمع الشيء المتأخر، وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة).
فقد كانوا في الجاهلية يفرعون ويعترون، فجاء الإسلام وبين لهم: اعملوا كذا واعملوا كذا لكن ليس على هيئة الوجوب، وإنما لبيان ما يصنعونه في ذلك، ثم لما ظنوا أن هذا واجب وأنه لابد أن يفعلوه، فقد يكونون فهموا ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (الفرع حق)، فبين لهم أنه: (لا فرع) واجب عليكم، فلا يجب عليكم ذلك.
وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع من كل خمس شياه شاة)، والحديث الأول هو حديث عائشة، وهو قوله: (من كل خمسين) فيحمل على الزكاة، وفي رواية الإمام أحمد قال: (أمرنا بالفرع)، وبينت عائشة فقالت: (من كل خمس شياه شاة)، وهذا قدر كبير جداً، والزكاة لم تأتِ بذلك، فغايته أن يكون هذا مستحباً ولا يجب.
قالت: (وأمرنا أن نعق عن الجارية شاةً وعن الغلام شاتين)، وباقي الحديث: (أمرنا بذلك صلى الله عليه وسلم) أي: بالعقيقة.
وروى أبو داود عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه -وهذا الحديث صحيح- أنه قال: (نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا).
نقول: الأمر هنا على الوجوب، ولكن إذا كان الأمر جواباً للسائل فلا يدل على الوجوب، فإن الأمر يدل على الوجوب ابتداءً، ولكن عندما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل نفعل كذا؟ فيقول: افعلوا، فيكون ورد جواباً على السائل، ولا يكون الجواب إلا كذلك، فلا يقال: هذا أمر على الوجوب، فعلى ذلك: هنا السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كنا نذبح، فقال: (اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا)، وقال الرجل: (إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية، فما تأمرنا؟).
فقد كانوا يَعترون، والعتيرة: ذبيحة رجب، قال: (كنا نفرع فرعاً في الجاهلية فما تأمرنا؟) يعني: نحن في الجاهلية عندما تكثر غنمنا أو إبلنا نذبح واحدةً منها، أو عندما يأتي أول النتاج من الإبل نذبحه على حاله، من غير أن نطعمه ولا نمسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك)، السائمة: بهيمة الأنعام التي تسوم ولا تعلف، أي: تأكل من المراعي التي خلقها الله سبحانه وتعالى، قال: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك حتى إذا استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه على ابن السبيل، فإن ذلك خير).
فقوله: (إذا) بينت في آخر الحديث أن هذا من الخير الذي تفعله وليس هذا فرضاً واجباً عليك.
فيكون حديث نبيشة فيه: أنهم كانوا يذبحون في رجب فقال لهم: اذبحوا لله في أي شهر، في أي شهر من الشهور، ولا تخصصوا رجب ولا غيره، ولكن اذبحوا لله عز وجل.
وقوله: (كنا نفرع في الجاهلية فما تأمرنا؟ قال: في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك)، تغدوه أي: تطعمه كما تطعم ماشيتك؛ لأنه كان في الجاهلية أول ما تلد الناقة وهو ما ليس له لحم إلا يسير جداً، وجلدة على عظم يذهب ويذبحه على هذه الحال.
وعندما تذبحه على هذه الصورة فمن الذي سيستفيد منه؟ فحد الاستفادة من ورائه شيء يسير جداً، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك) أي: كما تغدو ماشيتك، كذلك تغدو هذا، (حتى إذا استحمل للحجيج) أي: صار قوياً يستطيع أن يحمل الأحمال ويذبحه الإنسان في هدي ونحو ذلك، فهنا يجوز لك أن تذبحه، وقوله: (استحمل) أي: أطاق أن يحمل فوقه، ولم يعد صغيراً.
وفي رواية أخرى أيضاً صحيحة عن مخنف بن سليم قال: (بينما نحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات إذ قال: يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي يقول الناس: الرجبية).
ولو كان هذا الحديث لوحده فيمكن أن يدل على أن كل أهل بيت يجب عليهم ذلك، ولكن عرفنا من الأحاديث السابقة: أن الأضحية عند جماهير أهل العلم سنة مستحبة، وليست فريضة واجبة، ولذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان؛ مخافة أن يظن الناس أنها واجبة.
فيحمل هذا الحديث على استحباب الأضحية إذا قدر عليها، والعكس من باب أولى، إذا كانت الأضحية مستحبة فكذلك العتيرة تكون مستحبة.
وهناك حديث آخر رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع؟ قال: والفرع حق).
أي: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان باطلاً، فقد كانوا يذبحون للأصنام، ولكن في الإسلام يذبحون لله سبحانه وتعالى، فهذا من الحق، ومن الصدقة.
قال: (وإن تتركوه حتى يكون بكراً ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره، وتكفأ إناءك وتوله ناقتك) هنا في الحديث: يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرع حق، فيكون المعنى: لكم أن تفرعوا بالفرع الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال لهم: هذا حق، فكونك تذبح لله عز وجل هذا من الحق، ولكن بدل أن تذبحه وهو ما زال صغيراً اصبر عليه حتى يكبر قليلاً واذبحه أو تصدق به على الحاج، ولهذا قال: (والفرع حق، وأن تتركوه حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض)، كلمة (شُغْزُباً) بعض علماء اللغة يخطئون في هذه الكلمة، فقالوا: والصواب أن يقول: (زُخْرُب) ومعناه: سميناً أو غليظاً اشتد لحمه، والله أعلم.
لكن الغرض: أن الحديث قد يكون الراوي رواه بمعناه وعلى لغة من اللغات فذكره هكذا، فقال: (حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض أو ابن لبون)، ابن مخاض: هو ما له سنة، وابن لبون: ما له سنتان، (فتعطيه أرملة) فليس شرطاً أن تذبحه، ولكن تعطيه وهو حي لامرأة أرملة، (أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه)، وإذا ذبحه على هذه الاحل وهو ليس فيه لحم فما الذي سيستفيد منه؟ قال: (فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وقوله ناقتك) أي: عندما يذبح وهو صغير على ما كانوا يفعلون في الجاهلية يلزق اللحم بالوبر، فلا تستطيع أن تخرج منه لحماً، ويكون جلده على عظمه، فلا توجد فائدة كبيرة من ورائه.
(وتكفأ إناءك) وهنا يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه عندما يذبح الجمل وهو صغير، فلو ترك ترضعه أمه فإنه يبقى فيها اللبن، فهو يشرب من اللبن ويبقى لك منه، فأنت كسبت اللبن الذي أتى، لكن عندما تذبحه وهو صغير ستكفئ إناءك فلا يبقى لك اللبن.
قال: (وتوله ناقتك) أي: تحزن وتفجع الناقة، فالناقة عندما يكون ابنها صغيراً فإنه يجعل الله عز وجل فيها الحنان والرحمة على صغيرها، فإذا كبر واستغنى عنها انفصل، وكان سهلاً أن تذبحه بعد ذلك عندما يكبر، فلذلك قال: (وهو صغير) إذا ذبحته فقد لا تجد