[الرد على القائلين بركنية المبيت بمزدلفة]
لكن جمهور العلماء أبوا ذلك وقالوا: الآية التي احتجوا بها ليست دليلاً على ذلك، فقول الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:١٩٨] لا يدل على وجوب المبيت بمزدلفة، فإن الله تعالى قال: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨]، ولو أن الإنسان كان عند المشعر الحرام بمزدلفة ونام الليل كله ولم يذكر الله عز وجل فيها، ثم ذهب إلى منى؛ صح حجه باتفاق العلماء، فإذا كان منطوق الآية لم تعملوا به، فكيف بالمفهوم الذي من ورائه، فالآية لها منطوق ومفهوم من وراء ذلك، فالمنطوق هو قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨] وهو الذكر، وهذا المنطوق لم يعمل به مما يدل على أن هناك كلمة محذوفة، فيكون المعنى: توجهوا إلى المزدلفة حتى تذكروا الله عز وجل هناك، فكيف يقال عن الذكر في مزدلفة ليس ركناً وهو منطوق الآية والمبيت بها ركن وهو مفهوم الآية؟! وهذا صحيح في الاحتجاج بهذه الآية.
أما حديث: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) فقوله: (وقف) إثبات و (ليلاً) نكرة بمعنى: أي جزء من الليل ولو يسيراً، فالنكرة هنا في سياق الإثبات فيكون المعنى ولو أقل القليل.
والحديث له سبب وهو عروة بن مضرس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله! إني جئت من جبل طي، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله! ما تركت من حبل إلا وقفت عليه)، والحبل مثل الجبل إلا أن الجبل صخر والحبل رمال، فهنا يقول: ما تركت أي مرتفع ولا كثيب من الأرض إلا وقفت عليه، (فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف في عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه وقضى تفثه).
وهؤلاء الذين قالوا: إن المبيت بمزدلفة ركن يفوت الحج بتركه واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد صلاتنا هذه)، قال لهم الجمهور: وهل شهود الصلاة الذي هو منطوق الحديث ركن من الأركان حتى تقولوا: إن المبيت بمزدلفة الذي هو مفهوم الحديث ركن أيضاً؟ فيلزمكم أن تقولوا: إن هذه الصلاة يجب أن يشهدها مع الإمام، وهي من الأركان، وأنتم تقولون بذلك.
وممن ألزم بذلك الإمام الطحاوي، فقد ألزم به ابن حزم رحمة الله عليهما، فالتزمه ابن حزم، وأخذ بذلك العلامة الألباني رحمة الله عليه، وهذا لم يقله العلماء السابقون، بل هذا التزام ألزمهم العلماء بشيء فقالوا بهذا الذي ألزمهم العلماء به.
والراجح: أن الصلاة هنالك ليست من الواجبات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة هذا الرجل، ويقول: أنت وقفت معنا، وطالما أننا صلينا الفجر في هذا المكان، وصلينا الفجر على أول وقته، وأنت قد وقفت قبل ذلك في عرفة، وعليه فقد كنت في مزدلفة ليلاً، وبهذا يكون حجك صحيحاً، وقد أتيت بالوقوف الواجب عليك.
بل أخذ الجمهور من قوله صلى الله عليه وسلم: (وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) دليلاً لهم، فإن ليلاً هنا نكرة في سياق الإثبات، فيصح على أقل شيء من الليل، فلو أنه وقف بعرفة قبل الفجر بخمس دقائق، ثم طلع عليه الفجر في هذا المكان فإنه لن يستطيع الذهاب إلى مزدلفة ليصلي الصبح مع الناس، فالحديث دليل للجمهور على أنه إذا أدرك بعرفة آخر الليل ولو آخر دقيقة من الليل فقد أدرك الحج، مع أن هذا الإنسان الذي سيقف بعرفة في هذا الوقت يستحيل يصلي الفجر مع الناس في المزدلفة.
وعلى ذلك لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعينها أنها واجبة أو أنها ركن في هذا المكان من الأركان التي في الحج، وإنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم بيان أنك تدرك عرفة ولو للحظات يسيرة قبل أن يطلع عليك الفجر، ويدل على ذلك الحديث الجامع في قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فهذا هو الركن الذي يضيع الحج بتركه، فإذا وقف بعرفة ولو للحظة من آخر الليل فقد أدرك الحج، والباقي الذي عليه من الواجبات تجبر بدم إن لم يتمكن منها، وكذلك الطواف والسعي بالبيت فهذا لا يفوت، سواء أدرك الطواف في هذه الأيام، أو لم يطف وأدرك الطواف بعد ذلك في أيام العيد، أو مرت عليه أيام العيد فلم يزل الطواف واجباً ركناً عليه، ولابد أن يأتي به حتى ولو سافر فيلزمه أن يرجع، ولا يتحلل التحلل الأكبر حتى يطوف بالبيت.