[حكم من أخر طواف الإفاضة إلى مساء يوم النحر]
ومن أمسى يوم النحر ولم يكن قد طاف للإفاضة طاف ولم يلزمه شيء، وقد ذكرنا في الحديث السابق أن الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (طفت بعدما أمسيت) أي: بعد دخول وقت المساء، فقالوا: يدخل المساء من بعد الظهر إلى المغرب، وقال بعضهم: بل يكون المساء إلى منتصف الليل، فكأن وقت المساء يعم هذا كله، فالرجل الذي قال: (رميت بعدما أمسيت، قال: لا حرج) فلعله رمى بعد الظهر أو رمى بالليل فقال: (لا حرج) فيكون الوقت واسع في ذلك.
وكذلك لو أنه أمسى يوم النحر ولم يكن قد طاف بالبيت فجماهير أهل العلم بل يذكر الإمام البيهقي الإجماع على ذلك؛ أنه لا شيء عليه في ذلك، وأنه لا يلزمه أن يرجع محرماً مرة ثانية.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، فذكرت أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم عليه الصلاة والسلام، أي: قبل الإحرام، أما بعد الإحرام فلا، ثم طيبته مرة ثانية لحله قبل أن يطوف بالبيت صلى الله عليه وسلم، وهي لا تعرف هل سيطوف بالبيت الآن أو في المساء أو في الصباح، فقالت: (قبل أن يطوف بالبيت) فكأن التحلل وقع قبل أن يطوف صلى الله عليه وسلم بالبيت فطيبته عائشة، وبذلك يقول الإمام النووي: أن هذه الجملة وهي قولها: (حله قبل أن يطوف) فيها دلالة على أنه حصل له تحلل قبل الطواف.
قال: وهذا مجمع عليه، أي: أنه حصل التحلل الأصغر وليس التحلل الأكبر.
وهذه المسألة استمر فيها الخلاف فترة طويلة، وقد ذكرها العلامة الشيخ الألباني رحمة الله عليه في كتبه وذهب إلى أنه صح الحديث بأنه قد عاد محرماً، والشيخ الألباني رحمه الله كان من أتبع الناس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما صح عنده الحديث قال بما لم يقله قبله أحد من العلماء حتى عهد عروة بن الزبير أو عهد ابن خزيمة رحمة الله على الجميع، فقال: إنه ثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا لم يطف بالبيت وأمسى فإنه يرجع محرماً مرة ثانية.
وهذا الحديث تكلم فيه العلماء، فمن صححه قال: إنه منسوخ، ومن ضعفه قال: لو صح لقلنا به مثل ابن حزم وغيره، والحديث الذي سيلزم الأمة لا بد أن يكون حديثاً صحيحاً بحيث تعمل به الأمة، لكن كونه قد صح الحديث والإجماع على عدم العمل به فيقال: إن الإجماع دل على وجود ناسخ لهذا الحديث.
فالإجماع لا ينسخ الحديث ولكنه يدل على وجود ناسخ لهذا الحديث؛ لأنه من غير المعقول أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحكم من الأحكام الشرعية ثم تتفق الأمة كلها على عدم العمل به، فهذا مستحيل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وإذا اجتمعوا على خلاف الحديث فإما أنهم مجتمعون على ضلالة، وهذا يخالف الحديث الآنف، أو أنه وجد ما ينسخ هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو لنا، ولكن دل الإجماع على وجوده.
فهذا الذي يقال به، وهذا الحديث إما أن يكون ضعيفاً، ومن صحح الحديث أو حسنه فقد صححه أو حسنه من باب الحسن لغيره مثلاً؛ فبناء على ذلك قال بهذا الحديث، أو أنه مؤول فله تأويل آخر، أو أنه صح لكن الإجماع على خلافه.
والحديث طرقه كلها ترجع إلى أحد الرواة، فقد جاء في سنن أبي داود عن أم سلمة مرفوعاً: (فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به)، والحديث يقول عنه النووي: هذا حديث صحيح، وروي عن البيهقي أنه قال: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به.
قال النووي: فيكون الحديث منسوخاً دل الإجماع على نسخه؛ فإن الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ ولكن يدل على الناسخ.
قال البيهقي: ويستدل بالإجماع على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على نسخه.
ويقول البيهقي في الخلافيات: يشبه إن كان قد حفظه ابن يسار أنه منسوخ، ويستدل بالإجماع على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على النسخ.
يعني: إجماع العلماء على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول من غير تفصيل دليل على نسخ هذا الحديث، هكذا يقول الإمام البيهقي.
وابن المنذر يذكر أنه يوجد في هذه المسألة قول خامس وهو: أن المحرم إذا رمى الجمرة فيكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت، قال: وكذلك قال أبو قلابة.
وهو من التابعين.
وقال عروة بن الزبير: من أخر الطواف بالبيت يوم النحر إلى يوم النفل فإنه لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب، وقد اختلف فيه عن الحسن البصري وعطاء والثوري.
أي: أنه قد جاء عنهم القول به وبعدمه، فيكون الذي قال به أبو قلابة وعروة بن الزبير.
والحديث رواه أبو داود وأحمد من طريق محمد بن إسحاق بن يسار قال: حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة يحدثانه جميعاً بذاك، قالت: (كانت ليلتي التي يصير إلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر، فصار إلي، ودخل علي وهب بن زمعة ومعه رجل آخر من آل أبي أمية متقمصين -أي: لابسين قمصاً- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ وهب: هل أفضت أبا عبد الله؟ قال: لا والله يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: انزع عنك القميص، قالت: فنزعه من رأسه، ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: ولم يا رسول الله؟ قال: إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا -يعني: من كل ما حرمتم منه- إلا النساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به) فكأنه مقيد بالطواف إما أن تطوفوا قبل أن يدخل عليكم المساء، وإلا رجعتم حرماً مرة أخرى.
زاد أحمد: قال محمد بن إسحاق: قال أبو عبيدة: وحدثتني أم قيس ابنة محصن -وكانت جارة لهم- قالت: خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصين عشية يوم النحر، ثم رجعوا إلي عشاءً قمصهم على أيديهم يحملونها، قالت: فقلت: أي عكاشة! ما لكم خرجتم متقمصين ثم رجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: كان هذا يوماً قد رخص لنا فيه إذا نحن رمينا الجمرة حللنا من كل ما حرمنا منه إلا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطف به صرنا حرماً كهيئتنا قبل أن نرمي الجمرة حتى نطوف بالبيت، ولم نطف فجعلنا قمصنا كما ترين.
والحديث له طريق آخر، فقد رواه الطبراني عن ابن إسحاق أيضاً عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير عن زينب عن أم سلمة.
إذاً: فللحديث طريقان: طريق أبي داود: محمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو عبيدة، قال عنه الحافظ ابن حجر: مقبول، يعني: عند المتابعة إذا تابعه أحد، ولم يوثقه إلا الإمام الذهبي فقط، ولعله اعتمد على أن ابن حبان ذكره في الثقات، ولو وثقه أحد لذكر الحافظ ابن حجر ذلك، فقد تتبع من وثقه فلم يجد.
وابن حزم بحث فيه وقال: هو على جلالته لم يوثقه أحد.
فقول الذهبي أنه ثقة يحتاج إلى نظر؛ لكونه لم يوثقه من العلماء السابقين أحد، فهو وإن كان رجلاً جليلاً وشريفاً له شرف وذكر في الناس إلا أنه لم يوثقه أحد.
وأما الطريق الأخرى التي ذكرها ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير، فقد قال الحافظ في خالد: إنه لا يدرى من هو.
أي: أنه مجهول فلعله يكون مدلساً، وراويه ارجع طريقه لـ أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة مرة ثانية فلعله عن آخر غيره، لكن لا ينبغي أن نقول: إنه قد توبع، خاصة في هذا الحكم الخطير؛ لأنه سيضيق على الحجاج تضييقاً شديداً جداً؛ لأن الأمر صعب جداً وليس سهلاً أن يعود جميع الحجاج محرمين مرة ثانية، بل هو غاية في الصعوبة، فهذا الحكم يحتاج إلى حديث أصح من هذا الحديث حتى يقال به؛ لأن رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الذي ذكر الحافظ أنه مقبول -أي: عند المتابعة- لن نجد من يتابعه إلا هذه الرواية التي رواها ابن لهيعة، فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي من طريق ابن لهيعة، وذكر عن عروة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب وهي صحابية، وعروة لم يسمع ممن روى عنه، وذكر عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أم قيس بنت محصن، فاختلف ابن لهيعة في روايته، فمرة يذكر شيئاً ومرة يذكر غيره، فقد ذكر جدامة بنت وهب مرة، ومرة أم قيس بنت محصن، وهذه غير الأولى، ولم يذكر لـ عروة بن الزبير أنه سمع لا من هذه ولا من هذه، ولعل الحديث يرجع إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة فيكون في النهاية واحد فقط هو الذي روى هذا الحكم، وهذا الواحد ذكر العلماء عنه أن له شرفاً وأنه مشهور ولكن لم يذكروا