[الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة]
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا في الحديث السابق كيفية الإهلال بالحج والبدء في مناسك الحج، فبعد أن تحلل المعتمر من عمرته، ومكث متحللاً حتى يوم التروية، يبدأ في مناسك الحج من يوم التروية، فيلبي الحاج بعد إحرامه، ثم يتوجه إلى في منى اليوم الثامن ويمكث فيها فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر هناك.
والذهاب إلى منى والمبيت بها في هذه الليلة سنة، ثم يتوجه إلى عرفة حيث يكون هناك وقت الزوال فيصلي مع الإمام صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً، وكان قبل ذلك يصلي بمنى كل صلاة على وقتها ولكنه يقصر من الصلوات.
ثم يمكث من وقت الزوال حتى غروب الشمس يدعو الله سبحانه تبارك وتعالى واقفاً في عرفة، وفي أي موقف وفي أي موضع من مواضع عرفة وقف جاز له ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف).
فإذا غابت الشمس أفاضوا من عرفات متوجهين إلى المزدلفة، وسميت المزدلفة بهذا الاسم وكأنهم حين يخرجون من عرفات متقربين مزدلفين إلى المزدلفة، وأيضاً تسمى: جمعاً؛ وذلك لاجتماع الناس فيها.
والذهاب إلى المزدلفة والمبيت بها من واجبات الحج، والراجح أنه ليس ركناً من الأركان، وتسمى مزدلفة أيضاً بالمشعر الحرام، أما عرفات فتسمى بالمشعر الحلال؛ لأنها من الحل وليست من الحرم، والموقف الذي وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة هو أسفل جبل الرحمة عند الصخرة، وهذا الجبل يسمى بإلال، ولذلك يطلق على عرفات (إلال) ويطلق عليه عرفة وعرفات، ويطلق عليه المشعر الحلال، أما المشعر الحرام فهو المزدلفة؛ لأن المزدلفة من الحرم مثل منى ومكة فهما من الحرم، لكن عرفات من الحل، وعرفات أبعد أماكن المناسك عن مكة، فهي تبعد بحوالي ٢٢ كيلو تقريباً بين عرفات وبين مكة، فهي أبعد المناسك عن مكة.
والمزدلفة أقرب ومنى أقرب منها.
فإذا خرج الحجاج إلى مزدلفة باتوا ثم توجهوا بعد ذلك راجعين إلى منى لرمي الجمرات، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم في المزدلفة ودعا الله سبحانه تبارك وتعالى فيها بعد الفجر.
وفي حديث علي بن أبي طالب الذي رواه الترمذي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: (هذه عرفة وهذا هو الموقف وعرفة كلها موقف، ثم أفاض حين غربت الشمس، وأردف أسامة بن زيد وجعل يشير بيده على هنيته)، أي: يشير للناس أن امشوا بالسكينة، (والناس يضربون يميناً وشمالاً فيلتفت إليهم ويقول: يا أيها الناس! عليكم بالسكينة، ثم أتى جمعاً) وجمع هي المزدلفة، وهي المشعر الحرام، والمشعر مأخوذ من الشعائر، وفيها من شعائر الحج ما يقام في هذا المكان، قال: (فصلى بهم الصلاتين جميعاً المغرب والعشاء، فلما أصبح أتى قزح)، وهو جبل اسمه قزح، (فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف)، فلأجل ألا يظن الحجيج أنه لابد أن يقفوا على جبل قزح في نفس المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان أفضل- بين لهم أن المزدلفة كلها موقف ففي أي مكان وقف فيها أجزأه.
قال: (ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت حتى جاوز الوادي)، وهذا الحديث فيه اختصار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ووقف على جبل قزح يدعو ربه سبحانه دعاءً طويلاً إلى قبل طلوع الشمس بوقت يسير، فانطلق صلى الله عليه وسلم في وقت الاصفرار من جبل قزح راجعاً إلى منى، ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر وهو الوادي الذي حسر فيه الفيل وأصحاب الفيل، والتحسير بمعنى: الإعياء والإكلال، وكأنه كل وأعيا في هذا المكان، فالنبي صلى الله عليه وسلم تحرك سريعاً في هذا المكان -فالمستحب في أماكن نزول عذاب الله عز وجل على قوم ألا يقف الإنسان فيها، ولكن يسرع في المرور في هذا المكان، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قرع ناقته فخبت حتى جاوز وادي محسر.
قال: (فوقف وأردف الفضل، ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر ومنى كلها منحر واستفتته جارية شابة) وذكر الحديث الذي ذكرناه قبل ذلك.
والسنة إذا غربت الشمس وتحقق غروبها أن يفيض الإمام من عرفات ويفيض الناس معه، والجمع بين الليل والنهار في عرفات واجب لمن تمكن بالوقوف في النهار، وإلا فالليل وحده يكفي للمعذور.