للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[استحباب النقيعة وهي الإطعام]

يستحب النقيعة، والنقيعة: هي طعام المسافر، وكأنها مأخوذة من النقع، والنقع هو التراب، وسميت بذلك لأن المسافر يأتي وعليه تراب وغبار السفر، فسميت النقيعة لذلك، فإذا قدم المسافر فيستحب له أن يطعم أهله وأن يطعم جيرانه وأن يطعم أحباءه، وله أن يفعل ذلك في طريق عودته؛ فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ففي حديث جابر: (اشترى مني النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً بوقيتين ودرهم أو درهمين، فلما قدم صراراً)، وصرار: هو مكان قريب من المدينة يبعد عنها بحوالي ثلاثة أميال، أي: حوالي خمسة (كيلو) أو نحو ذلك، قال: (فأمر ببقرة فذبحت فأكلوا منها) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الرفقاء الذين كانوا معه، وهذه عادة جميلة منه صلوات الله وسلامه عليه، فلعل الركب النازلين معه صلى الله عليه وسلم يصلون إلى أهلهم وأهلهم فقراء، لم يجهزوا لهم طعاماً يطعمون هؤلاء الذين قدموا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث ذبح لهم بقرة عليه الصلاة والسلام فأكلوا منها، قال: (فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد فأصلي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير) أي: دفع لي الثمن، والقصة طويلة، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يري جابراً فعل الله عز وجل بأبيه رضي الله تعالى عنه، وأبوه هو عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله تعالى عنه الذي استشهد في أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن الله خاطب الشهداء من وراء حجاب، وخاطب عبد الله بن حرام كفاحاً، يعني: من غير حجاب، وهذا لفضله عند الله سبحانه وتعالى، وقد سأل الله عز وجل هؤلاء الذين استشهدوا في سبيله: ماذا يريدون؟ فطلبوا أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة ثانية حتى يقاتلوا ويقتلوا في سبيل الله سبحانه، فأبى الله عز وجل ذلك، ولكنه رد على الشهداء أرواحهم وأدخلهم الجنة، وطلبوا من ربهم أن يخبر من بعدهم بما صنع بهم سبحانه وتعالى، فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩].

فالشهيد باع نفسه لله سبحانه وتعالى، وأخذ الثمن الجنة، فإذا بالله يقبل منه هذا الثمن وهو نفسه ويعطيه الجنة، ويرد عليه روحه سبحانه وتعالى.

فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يري جابراً ما صنع الله عز وجل بأبيه، فـ جابر كان راكباً على جمل، فأتعبه الجمل في الطريق، فإذا بـ جابر يتضايق منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بِعْنيهِ) يعني: ضقت من هذا الجمل؟ أنا سوف أشتريه منك، ولم يظن جابر أنه سوف يبيعه، فاتفقا على الثمن، ثم جعله النبي صلى الله عليه وسلم له ليركبه حتى يصل إلى المدينة، فركب جابر البعير، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويضرب البعير فيجري البعير في الطريق حتى صار أسرع ما يكون، فلما وصلوا إلى المدينة علم جابر أن هذه بركة من بركات الله عز وجل جعلها على يد نبيه صلوات الله وسلامه عليه، فقال في نفسه: يمكن أن هذا كان في الطريق من أجل أن أرجع، وبعد أن أصل إلى المدينة سيعود كما كان، فأنا لا أريده، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فخشي جابر أن يرد عليه جمله، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالاً أو غيره أن يعطيه الثمن فوفاه الثمن، وبعد أن أعطاه الثمن زاده فوق الثمن أيضاً، فلما أراد أن يذهب قال له: (أتحسب أنا ماكسناك لنأخذ جملك؟ -يعني: أتظن أنا كنا نساومك من أجل أن نأخذ جملك؟ - البعير رد عليك، خذ جملك)، فأعطاه الثمن وأعطاه المثمن، كأنه يذكره بصنيع الله عز وجل بأبيه أنه أخذ روحه وأعطاه الجنة، ثم أعطاه روحه مرة ثانية.

<<  <  ج: ص:  >  >>