للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات صفة الاستواء لله عز وجل كما يليق بجلاله]

قال رحمه الله تعالى: [وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله.

فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:١٢ - ١٣]، فيتخيل له أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو غرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها، فقياس هذا أنه لو عدم العرش لسقط الرب سبحانه وتعالى، ثم يُريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار.

ولا يُعلم أن مسمى (القعود) و (الاستقرار) يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء! فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى (الاستواء) فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم.

وقد عُلم أن بين مسمى (الاستواء) و (الاستقرار) و (القعود) فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يُعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره.

وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثّل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك.

وليس في هذا اللفظ ما يدل على ذلك؛ لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك.

فلم يذكر استواء مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوقات، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة].

أشار الشيخ هنا إلى شيء يغلط فيه كثير من الناس، بل حتى بعض طلاب العلم، وهو قوله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:٤٧]، وقول شيخ الإسلام: وأنه بنى السماء بأيد، أن المقصود بالأيد جمع اليد، وليس هذا هو المقصود باتفاق المفسّرين من السلف وأهل اللغة، وإنما المقصود بالأيد القوة، وليس هذا تأويلاً؛ لأن معنى الآية عند العرب {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:٤٧] أي: بقوة، ولا دخل لها باليد واليدين والأيدي.

قال رحمه الله تعالى: [فلو قدر -على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه -تعالى عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه، أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه، بل قد عُلم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواء يخصه، لم يذكر استواء يتناول غيره ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.

هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوّز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق.

بل لو قُدِّر أن جاهلاً فهم مثل هذا وتوهمه، لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل اللفظ عليه أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه.

فلما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:٤٧] فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان؟].

<<  <  ج: ص:  >  >>