هذا نوع من أنواع الشرك، وهو النوع الأكثر والغالب فيما وقعت فيه الأمم عامة وفيما وقع فيه مشركو العرب خاصة، فقد كان الأغلب في شركهم أنهم زعموا أن من يقدّسونهم من أشخاص أو أحجار أو أشجار أو أشياء غيبية غائبة أو حاضرة من الصالحين وغير الصالحين، أن هؤلاء وسطاء لهم، وأنها تشفع لهم عند الله، وقد يعبدون الله من وجه، ويعبدون هذه الأصنام من وجه، وقد يفرد طوائف منهم العبادة للأصنام؛ زعماً منهم أنهم ليس لهم دالة على الله لارتكابهم للمعاصي والآثام، ليس لهم وجه بأن يعبدوا الله، وهذا من عبث الشيطان بهم، وبعضهم يعبد الله ويعبد هذه الأصنام، وبعضهم قد يعتقد -وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس اليوم- فيها النفع والضر، وقلبه يتوجه إليها عند الضرورة.
النوع الثاني: هناك من يعبد غير الله مباشرة، ويزعم أن في المعبود خصائص الإله، وهذا ما عليه كثير من مشركي المجوس والهنود وغيرهم، فلا يعبدون الله أصلاً، بل يعبدون الصنم مباشرة، لا لأنه وسيط؛ بل لأنه عندهم هو المستحق للعبادة، وهذا النوع من الشرك أغلب ما يكون في البلاد البعيدة عن بلاد العرب.
وهناك نوع آخر، لكن قد لا يكون من هذا النوع: وهو ادعاء خصائص إلهية أو ربوبية في أحد المخلوقات، حتى وإن لم يوجه له عبادة ولا رجا ولا خشيه، لكنه إذا اعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات فيه خصيصة من خصائص الرب عز وجل فهذا شرك اعتقادي، وهذا يقع فيه كثير من الفلاسفة، والذين يستكبرون عن العبادة، فتجد في قلوبهم تقديساً لشيء من المخلوقات، ويدّعون أن في بعض المخلوقات خصائص الرب عز وجل أو بعض خصائص الرب، وهذا النوع من الشرك يوجد عند طوائف من الأمم.
النوع الآخر: شرك الحلول، وهو أن يعتقد أن الله حل في شيء من المخلوقات، كالروح أو العقل أو النفس أو في أي من تعبيراتهم الكثيرة، فمثلاً: خرافة العقل الفعّال، فيرون أن العقل الفعّال هو الله، وأن هذا العقل الفعّال وجد في المحركات للكون، وهذا نوع من الحلول، وبعضهم يرى أنه حل في بعض المخلوقات أو في كلها جزءاً من الإلهية حلول روح أو حلول عقل أو حلول نفس أو أي نوع من الحلول، وأحياناً يكون الأمر أكبر من ذلك، فقد يكون أحياناً اتحاداً، وهذا قمة الشرك، أي: اعتقاد أن الكون كله هو الله، وأنه ليس هناك وجود ذاتي لله عز وجل غير وجود المخلوقات.
وهذه كلها دخلت على العرب قديماً، ودخلت على المسلمين تحت مذاهب شتى، خاصة مع الطرق الصوفية التي صارت أوعية، ولذلك من خلال الطرق استطاع أمثال ابن عربي وابن الفارض والسهروردي المقتول ومن نحا نحوهم أن يُدخلوا وحدة الوجود على المنتسبين للإسلام من خلال الطرق، ومن خلال التصوف الذي يسلّم للشيخ، ويعتقد أنه مهما عمل فعمله كله بركة، ولو كان شركاً خالصاً.
قال رحمه الله تعالى: [فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون، وقال تعالى عن مؤمن يس:{وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}[يس:٢٢ - ٢٥]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:٩٤]، فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء، وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[الزمر:٤٣ - ٤٤] وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ}[السجدة:٤]، وقال تعالى:{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}[الأنعام:٥١].