[حقيقة القدر المشترك الكلي]
بعد ذلك تكلم المصنف عن القدر المشترك الكلي، وهذه مسألة كثيراً ما ينخدع بها المتأثرون بمناهج الفلاسفة، وقد أشكلت على كثير من المتكلمين، وهي من المعضلات التي جعلتهم يخوضون فيما لا يعلمون، وهي: أن الاشتراك يقتضي نفي أي علاقة مشاركة، الاشتراك الذي هو الاشتباه، ولذلك منهم من نفى كل الأسماء والصفات، ومنهم من نفى الصفات فقط، ومنهم من أوّل الصفات.
هذا الاشتراك الكلي المطلق الذي علّقوا به أحكاماً واقعية وهو ليس بواقع، هذا الاشتراك الذي في الأذهان هو اشتراك خيالي، فإذا طبّقته في الواقع لم يعد اشتراكاً، ولنأخذ مثلاً صفة: (الوجود)، إذ هي كلمة كلية لم نخصص بها أي وجود، يقول الشيخ: هذه الكلمة في الأذهان لم تخرج إلى الواقع، لكن عندما نقول: الوجود وجود الكون، فقد خصصنا الصفة، فخصصنا الوجود بالكون، وعرفنا أنها قُيدت بشيء، أو نقول: الوجود وجود الإنسان، فقد خصصنا الوجود بالوجود الإنساني، لذا لما خُصصت صارت واقعاً، أما قبل أن تخصص فهي في الذهن فقط، وما دامت في الذهن فيقول: لماذا تبنون عليها أحكاماً؟ لماذا تعتبرون الوجود قاسماً مشتركاً وهو في الذهن؟ مع أننا إذا خصصناه لم يعد قاسماً مشتركاً، فإذا خصصنا الوجود صرفناه إلى الخالق عز وجل، فهو وجود يخصه، وهو الكمال، وكذلك إذا أضفنا وجود المخلوق فهو وجود يخصه، وهو النقص، فالشيخ يحاكمهم إلى خيالات بنوا عليها أحكاماً، وهذا في جميع أصولهم التي نقضوا بها الوحي، سواء بتعطيل أو بتأويل أو بنفي بعض الشيء وإثبات بعض، فكل هذا مبني على خيالات وهمية هي في أذهانهم ليست في الواقع، وهذا القدر يسمى: القدر المشترك الكلي، ولا يوجد في الواقع، ولا يوجد في خارج الأذهان، وليس في خارج الكون، وإنما خارج الأذهان، فالخيالات في الأذهان ليست واقعاً حتى تكون هذه الخيالات منطبقة على الواقع، وكذلك الأوصاف ليست واقعاً حتى ننسبها إلى موصوف، فصفة (الوجود) كلمة مطلقة ليست واقعية، فإذا نسبناها إلى موصوف أصبحت واقعية، فإذا قلنا: الإنسان موجود.
إذاً نسبنا هذا الوجود للإنسان، فأصبح واقعاً، وإذا قلنا: الله عز وجل موجود، فهذا وجود خصصناه بالخالق عز وجل، فهو الوجود المطلق الكامل، لا مطلق الوجود.
إذاً: هذه من الأشياء التي استطاع بها الشيخ رحمه الله درء التعارض، وبيان تلبيس الجهمية، إذ أوصلهم إلى طريق مسدودة، فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا هذا الأمر، ولذلك ما رد عليه أحد من أهل الكلام إلى يومنا هذا في هذه القضايا، أي: في مسألة تحكيمهم أو الحكم عليهم من قواعدهم ومن أصولهم التي يقولون بها، يقول: حتى أصولكم تتناقض! فمنها: مسألة الوجود الكلي، أو الوجود الذهني، أو الوجود العام، أو الوجود المطلق، أو الوصف المطلق، فيقول: أنتم الآن تحكمون على أشياء ليس لها واقع، فإذا صارت واقعاً عند ذلك حكمنا بالخصائص، وخصائص الله عز وجل غير خصائص المخلوق.
يقول رحمه الله: (وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا -أي: أن المعنى العام إذا خصصناه أُطلق على هذا وعلى هذا- لأن الموجودات في الخارج -أي: خارج الذهن- يشارك أحدها الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله.
لأن الموجودات في الخارج يشارك أحدها -ويجوز النفي أيضاً، لكن جاء لها عن طريق الإثبات- الآخر في شيء موجود فيه) بمعنى: إذا قلنا: إن كلمة (الوجود) كلمة في الذهن، فإذا خصصناها صارت في الواقع، فإن الموجودات في الواقع بينها اشتراك جزئي، هذا الاشتراك الجزئي لا يعني المماثلة من كل وجه، بل يعني المشابهة من بعض الوجوه، وهذه المشابهة لا تقتضي نقصاً في أحد الطرفين.
فأما الوجود المطلق فهو الوجود الذي لا ينتهي ولا يبتدي، مثل: وجود الله، وأما مطلق الوجود فهو الذي في الأذهان، كأن نقول: كلمة (الوجود) فهذه مطلق الوجود، لكن وجود الله هو الوجود المطلق الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، فقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، فهذا هو الوجود المطلق، وأما مطلق الوجود فهو المتخيل والمتصور، وهذا ينطبق على الوجود وعلى الحياة وعلى كثير من الصفات العامة، فإذا قلنا: الحياة، لا ندري أي حياة حتى تقيد، وحتى تتعلق بمتعلقها، فالحياة لله عز وجل هي القيومية التي لا نهاية لها، والحياة بالنسبة للمخلوق هي حياة موقوتة يعتريها الضعف والنقصان والفناء وجميع عوارض الخلل.
إذاً كما قرر الشيخ: أن عدم فهم هذا المعنى هو الذي تسبب في غلط منهجي أدى إلى التعطيل للأسماء والصفات، أو للصفات فقط، ثم إلى التأويل، وهو أخطر من التعطيل من أغلب الوجوه على الخلق، يعني: على المسلمين بالذات، مع أن التعطيل كفر، فلماذا يكون التأويل أخطر؟ لأنه بيّن البطلان، ولا يُعقل أيضاً، ولأن فيه تلبيساً على الإنسان، فإذا جاء شخص وقال لك: أنا أنفي لله الاستواء على العرش، فقد تستنكر لأول وهلة، لكن لو يلبِّس عليك ويقول: أنا أنفي أن يكون الله عز وجل يحتا