[القاعدة السادسة: بيان ضابط النفي والإثبات في الأسماء والصفات]
القاعدة السادسة: أنه لابد في هذا الباب -أعني باب الأسماء والصفات- من ضابط للنفي والإثبات، بمعنى: أننا لا ننفي نفياً مطلقاً، ولا نثبت إثباتاً مطلقاً، فالإثبات لا بد أن يُقيد بالنفي، والنفي لابد أن يُقيد بالإثبات، فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لابد أن نضبط ذلك مع نفي الكيفيات والمماثلة، نضبطه بضوابط، وهو: أن الإثبات يقتضي إثبات الكمال المطلق، ويقتضي نفي المشابهة، ويقتضي نفي كل النقائص التي نفاها الله عن نفسه، وكل النقائص التي يتوهمها البشر.
إذاً: لابد للإثبات من تقييد، وكذلك النفي، فعندما ننفي عن الله عز وجل النقائص والعيوب، وعندما ننفي عن الله عز وجل مماثلته للمخلوقين لابد أن يقيد هذا النفي أيضاً بضوابط، وهو ألا ينصرف النفي إلى نفي ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا إلى الإلزام بالمستلزمات التي لا تلزم، وهناك قصة ذكرها الذهبي عن محمود بن سبكتكين، وهو أحد السلاطين المسلمين في الهند في القرن الرابع والخامس الهجري، وقد قال كلمة جيدة، وقاعدة عظيمة فطرية، وعقلية بدهية، وذلك عندما جاءه أحد المتكلمين المشاهير، وأراد أن يدخل في ذهنه مسألة نفي العلو والفوقية لله عز وجل، فكان مما قال هذا المتكلم: إنه يلزم من إثبات الفوقية إثبات ضدها، فرد عليه هذا السلطان فقال: ليس أنا الذي يُثبت الفوقية من أجل أن تلزمني، وإنما الذي أثبتها هو الله عز وجل.
فخرج هذا المتكلم من عند السلطان مغموماً، حتى قيل: إنه أُصيب بمرض فتك به فيما بعد ومات، والله أعلم بالحال.
فتأمل هذه الإجابة الفطرية، وانظر إلى هذا التقرير العقلاني الفلسفي من المتكلم، إذ إنه إذا أثبت الفوقية لابد أن يثبت ضدها، وهذا صحيح في عالم الشاهدة، فكل مخلوق لا بد له من فوق وتحت، لكن هو استعمل القياس على منهج فاسد، فقال هذا المتكلم -كأنه يريد أن يدخل هذا المعنى الكلامي في ذهن السلطان-: يلزم من إثبات الفوقية إثبات ضدها، وصرّح بالضد! فقال له: كيف تلزمني؟! وأنا لست القائل بذلك، وإنما القائل هو الله عز وجل، وكان ذلك حجة فطرية تدل على الذكاء والفطنة، وتدل أيضاً على سلامة الاعتقاد.