للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[توحيد المتكلمين]

قال رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه، فقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:٣٨]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩] إلى قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:٩١]، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦].

وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى (التوحيد)، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له, وواحد في صفاته لا شبيه له, وواحد في أفعاله لا شريك له].

هذه الأنواع عندهم ترجع إلى قسمي التوحيد، ويغفلون القسم الثالث الذي هو المطلوب من العباد، والذي هو مقتضى بعث الأنبياء والرسل، ومقتضى ما أمر الله به من تحقيق رضاه عز وجل، ومقتضى الفوز بالجنة، ألا وهو توحيد الإلهية، فلا يدخل عندهم في أنواع التوحيد، بل لا يعرفونه ولا يتكلمون فيه، فهم قد دمجوا بين الربوبية والأسماء والصفات، وليس في ذلك ضير، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات بينهما خصوص وعموم كثير، فتوحيد الربوبية داخل في الأسماء والصفات، وكذلك العكس، لكن التوحيد الذي هو المطلوب من العباد، والذي بعث الله به الرسل، والذي عليه الخصام بين الأنبياء وأعدائهم، والذي هو التمييز بين الحق والباطل، والذي يتعلق به ما يرضي الله عز وجل، هو توحيد العبادة، ولذلك هذه الآيات التي ذكرها المصنف كلها في تقييد وبيان أن هذه الأمم الضالة المشركة كلهم يقرون بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والله عز وجل قد عاتبهم على ذلك، لأنه ما دام أنهم يقرون بأن الله عز وجل خلق السماوات والأرض، فلماذا يدعون غير الله؟ وهل هذه المدعوات من دون الله تكشف لهم الضر، أو تجلب لهم النفع؟ سيقولون: لا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من الموحدين أن يقولوا: حسبنا الله، وألا يتوكلوا إلا على الله، بمعنى: لابد من تحقق العبادة له سبحانه، وأيضاً حينما يسأل هؤلاء: لمن الأرض ومن فيها؟ كلهم سيقولون: لله، حتى من يعتقد أن هناك آلهة تدبر شيئاً من الكون يرون أن هذه الآية كلها تحت تدبير الله.

إذاً: الله عز وجل نبههم إلى أن يستعملوا عقولهم وأذهانهم، ولذلك جعل صرف أذهانهم وعقولهم وعواطفهم ومشاعرهم عن هذه الحقيقة كالسحر الذي يقلب الحقائق، فقال: (فأنى تسحرون) ما دام أنكم اعترفتم بهذه المعاني كلها، فاعترفتم بأن الله عز وجل رب السماوات والأرض، وأنه رب العرش العظيم، وأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه يجير ولا يجار عليه سبحانه، فما الذي سحركم عن هذه الحقيقة؟ وما الذي سحركم عن العبادة؟ وما الذي سحركم عن الألوهية الحقيقية؟ وما الذي سحركم عن إفراد التوحيد لله سبحانه؟ ولذلك جاء تقرير الحق بمجرد السؤال فقط، فقال: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٩]، ولم يزد على ذلك شيئاً؛ لأن هذه حقيقة بدهية، ويكفي أن أكثر الخطاب ينبه عقولهم وفطرهم ومشاعرهم وعواطفهم إلى هذه الحقيقة، وليس هناك داع بأن يقول: لماذا تسحرون عن هذا الحق الذي هو كذا وكذا؟ يعني: أن المسألة هذه غير طبيعية، فأنتم قلبتم المفاهيم وعكستم المطلوب، وكذلك بقية الآيات، وهي كثيرة في كتاب الله عز وجل.

والدخول في هذا يحتاج إلى شيء من المقدمة، ولعلي إن شاء الله أبدأ فيه في الأسبوع القادم، والمهم أن هذه الأنواع -أنواع التوحيد- هي الأنواع التي يقررها الفلاسفة والملاحدة وكثير ممن انحرف من الأمم الضالة نحو النزعات العقلية والفلسفية، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يعتب على أهل الكلام فيقول: أنتم ما أتيتم بجديد، فحينما قسمتم التوحيد إلى هذه الأقسام ما قررتم حقاً ولا أبطلتم باطلاً؛ لأن هذا الذي

<<  <  ج: ص:  >  >>