للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحجج العقلية الواضحة والفطرية الدامغة لشبه نفاة العلو]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء، ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة].

لأن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، والشيخ هنا يريد أن يرد على أصحاب شبهة نفي العلو بحجج عقلية واضحة بيّنة فطرية، فيقول: عندما نعبّر عن أي شيء أنه في كذا، فإن كل شيء له معنى، فالأشياء وهي مخلوقات لا يقاس بعضها ببعض إذا عبّرنا عنها بـ (في) ولله المثل الأعلى، فمن باب أولى أن نعتقد أن الله عز وجل حينما يُعبَّر أنه في السماء أن نجزم أنه ليس معناها: أن السماء تحويه، أو أنه في أي مكان من السماء، ولذلك قال: (لاختلاف تفسيرات المعاني في التعبير بـ (في)).

ولهذا يفرّق بين كون الشيء الذي ندركه بمداركنا وبحواسنا في مكان، لكن الله عز وجل لا يُدرك بالحواس، وأيضاً كون الجسم في الحيّز، يعني: كون أي مادة كتلة موجودة في المجال الذي تشغله، فإذا قلنا: الشيء الفلاني أو الجسم الفلاني في كذا، فكل جسم يختلف عن الجسم الآخر، فالشمس جسم، والقمر جسم، والإنسان جسم، فإذا قلنا: الإنسان في الغرفة، عرفنا معنى كونه في الغرفة، وإذا قلنا: الشمس في السماء، عرفنا أن المقصود أنها فوق، وأن السماء تحويها أيضاً، وكون العرض في الجسم، والعرض هو الصفة، والصفة كالجسم، كالسواد والبياض والطول والقصر، وكون الصفة في الجسم لا يعني أن هذا الوصف إذا انطبق انطبق على مثل صفة الجسم لو وصفنا بها غير الجسم، وكون الوجه في الإنسان غير كون الوجه في المرآة، فالوجه في الإنسان حقيقة، وفي المرآة صورة، وكله يقال: (في)، فتقول: انظر إلى وجه فلان في المرآة، فهل معنى هذا أن الوجه حل في المرآة؟ لا، وإنما هي صورة، والشيخ أتى بهذه الأمثلة ليبين أنه حتى عند تعبيرنا عن المخلوقات أنها في كذا يختلف من مخلوق إلى مخلوق، من حيث الحقيقة وعدم الحقيقة.

إذاً: إذا كان سبب نفيهم للعلو أنه لا يليق أن يكون الله في السماء، فيقول: نظراً لأنهم توهموا أن كونه في السماء تشبيهاً، وهذا خطأ منهم، فإذا قلنا: حتى في المخلوقات، فبعض الأشياء نقول: إنها في كذا، مثل: الوجه في المرآة، ومع ذلك فإن المرآة لا تحوي الوجه، وهذا مخلوق وهذا مخلوق -ولله المثل الأعلى-، فكيف نتحكم في معنى غيبي بحت في حق الله عز وجل الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، الذي لا نحيط به علماً؟ ويقولون: إن معنى كونه في السماء لا بد أن يكون وجوداً اعتبارياً؛ لأنا لو قلنا: إنه بمعنى العلو الذاتي، لقلنا: إنه بذاته داخل السماء، وهذه كلها تحكمات وأوهام، يجب أن نستبعدها من أذهاننا، وأن نثبت لله عز وجل العلو والفوقية على ما يليق بجلاله، ولا يعني إثبات العلو والفوقية أنه يحويه مكان سبحانه، وأنه يحصره مكان، وأنه داخل خلقه، فالله عز وجل أعظم وأجل، فهو على عرشه، والكرسي محيط بالمخلوقات كلها، والعرش فوق الكرسي، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله على ما يليق بجلاله، فكيف إذاً يتحكّمون بمثل هذه التحكمات، ويقولون: لا بد أن نثبت العلو الاعتباري المعنوي، ولا نثبت العلو الذاتي؛ لأنا لو أثبتناه لزم منه أن يكون في السماء، فتحويه وتحصره فيها! وهذا كله وهم، وقول على الله بغير علم، وتخرُّصات وخيالات وعبث، لكن مع ذلك صدّقوا خيالاتهم فقالوا: هذا تشبيه، فنفوا العلو الذاتي لله عز وجل، وليس العلو بإطلاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>