قال رحمه الله تعالى:[فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع - يعني: الوحي- أثبته دون ما لم يجئ به السمع].
هذه أيضاً قاعدة ناقصة؛ لأن من الكمالات التي تثبتها الفطرة السليمة والعقول لله عز وجل ما لم يرد به السمع على جهة التفصيل، فهذا على جهة الإجمال يُثبت لله عز وجل، فالسمع لا شك أنه خبر صادق، وهو جاء بالنفي والإثبات، وأيضاً الخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، بمعنى: أنه إذا لم يأت خبر في كمال من الكمالات لا يعني أنه لا يثبت ذلك الكمال لله، فالله عز وجل ما ذكر لنا جميع كمالاته، وإنما ذكر نماذج منها، حتى إنه في حديث:(إن لله تسعة وتسعين اسماً)، لا تعني الحصر، بل هناك أدلة قاطعة تدل على أن لله عز وجل من الكمال والأسماء والصفات والمحامد ما لم يرد في الكتاب والسنة، كما جاء في حديث الشفاعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(فأدعو الله بمحامد يلهمني الله إياها)، يعني: بكمالات، ليحمد الله بها في ذلك اليوم العظيم، فهذا دليل على أن الكمال لله عز وجل ليس محصوراً بما ورد في الكتاب والسنة، بل كمال الله لا يحصر، ولذلك قد تدرك العقول السليمة أن كمال الله لا حد له، ولا يُحد بمفردات قد وردت في الشرع، بل ما ورد في الكتاب والسنة هي نماذج من كمال الله، مما يحتاجه البشر وتستوعبه أذهانهم.
إذاً: الاعتماد في النفي على كون الشيء لم يرد به السمع خطأ، بل كما يجب إثبات كل كمال الله عز وجل كذلك يجب نفي كل ما ينافي الكمال لله عز وجل، حتى لو لم يرد نفيه في الكتاب والسنة، والإثبات من جانب أوسع من النفي، والنفي من جانب أوسع من الإثبات، فإذا نظرنا إلى مفردات الصفات والأسماء والأفعال نجدها في الإثبات أكثر، وإذا نظرنا إلى القواعد فنجد النفي أكثر، مثل قاعدة:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:٣ - ٤]، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى:١١]، فهذه أوسع؛ لأنها تنفي كل نقص، وهذا الذي جعل بعض الناس تشتبه عليه عبارة بعض السلف حينما قالوا: إن القرآن جاء بإثبات مجمل ونفي مفصّل.
وفي عبارة أخرى: إن الشرع جاء بإثبات المفصّل ونفي المجمل.
فإذا نظرنا إلى مفردات الأسماء والصفات والأفعال نجد التفصيل في الإثبات أكثر، وإذا نظرنا إلى القواعد نجد التفصيل في النفي أكثر؛ لأنه رد على مقالات أمم الكفر الباطلة التي قالت في الله عز وجل قولاً عظيماً، وقولاً شنيعاً، فجاء رد أقوالهم بقواعد دون التعريج على الأمثلة؛ لأن الأمثلة لا يحتاجها الناس، أي: أن صاحب العقل السليم والفطرة المستقيمة يكفيه أن تُعرض عليه قواعد نفي النقص عن الله عز وجل، بل إنه من غير اللائق أن يبالغ الإنسان في النفي، فالله عز وجل يُثبت له الكمال وتُنفى عنه النقائص، فيُثبت له الكمال جملة وتفصيلاً، وتُنفى عنه النقائص على جهة الإجمال، إلا إذا جاء لتفصيل موجب، كأن يتكلم متكلم بكلام غير لائق، فيرد عليه بمثل كلامه، وإلا فالأولى أن الإنسان لا يكثر من الأمثلة في نفي النقائص عن الله عز وجل، ولذلك تجدون مثل العبارات التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية من نفي البكاء والعطش والأعضاء، لا يأتي بها إلا عندما تأتي قواعد الرد فقط، وعند الرد على أناس خاضوا في هذه الأمور وابتلوا بها، ولذلك نصيحتي لكل طالب علم متخصص في العقيدة ألا يُعرّض الناس في الدروس لمثل هذه الأمور بدون موجب ضروري، كأن تكون مقتضى الدرس الذي يدرسه، أو أتت على لسان أحد، ومن هنا يفصّل من أجل نفي الشبهة، أما أن يكون تقريراً أمام عامة الناس، أو أمام عامة طلاب العلم، أو حتى طلاب العلم المبتدئين في العقيدة، فالأولى والأجدر أن يتحاشى التفصيلات في نفي النقائص؛ لأن ذكرها سوء أدب مع الله عز وجل.