قال المصنف رحمه الله تعالى:[وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال لا أقول: هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير; بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز؛ لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل، أو يوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل.
فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بقابل لهما.
قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في الوجود والعدم؛ فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر.
وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية].
سمي الفلاسفة المشاءون بذلك لأنهم غالباً من الناس الذين يسرحون في الخيال، إلى حد أنهم من مبالغتهم في التمادي في الأوهام والخيالات يمشي أحدهم فيسجل خواطره أو يمليها على من حوله، وهذا من علامات إفلاسهم في العلم، فيمشي ويفكر أحدهم مجرد تفكيرات خيالية، ويهذي، فيبدأ تلاميذه يكتبون، وقد وجدنا صورة تاريخية عجيبة تدل على مدى ضياع هؤلاء، هذه الصورة للإمام الرازي قبل توبته ورجعته إلى منهج الحق، فقد كان مرة يمشي ومعه تلاميذه يعدون بالعشرات، فيمشي ويهذي من هذا الهذيان والطلاب يسجلون، ويعيشون حالة من الزهو والغرور، حتى يظنون أنهم على شيء، فمروا بامرأة عجوز جالسة في الشمس، فتعجبت من هذه الأبهة وهذا الحشد مع هذا الرجل، فقالت لأحد الماشين مع الرازي: من هذا؟ فأنكر عليها وقال: كيف لا تعرفين هذا؟ قالت: أهو السلطان؟ قال: لا، قالت: أهو فلان، وذكرت الوجهاء الذين تعرف، فنفى أن يكون منهم، فأراد أن يعرفها بشيخه، قال: هذا شيخنا فلان الذي يعرف على وجود الله ألف دليل، فقالت: تعساً له وتباً، إن كان كذلك فوالله إن في نفسه ألف شك، أفي الله شك؟! فهؤلاء المشاءون يمشي ويهذي، ولو كان يتكلم بعلوم حسية لقلنا: هذا نافع ومفيد، ولو كان يتكلم بتقرير الشرع والدين لقلنا: هذا نافع ومفيد، لكن يتكلم في هذه الخيالات، في امتناع الوجود وامتناع العدم والسلبيات والأمور التي هي من طبيعة المتكلمين والفلاسفة، فهذا -نسأل الله العافية- من علامة الإفلاس، فالمشاءون هم الذين يسلكون هذه الطريقة، وكان على هذا طائفة من الفلاسفة قبل الإسلام، فقد كانت طوائف منهم يستعملون هذا الأسلوب، فيمشي ويفكر، والآخرون يكتبون ما يقول، ويناقشون ويتجادلون على هذا النحو.