للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقائق الأسماء والصفات من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله]

قال رحمه الله تعالى: [وأما حقيقة ما دل عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمهم إلا هو {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:٣١]، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء.

فقد علم أنه هو وأعوانه، مثل: كاتبه وحاجبه وخادمه ونحو ذلك، أمروا به، وقد يعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإراداته ونحو ذلك.

والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة.

وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يميز أحد النوعين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ} [محمد:١٥] فهناك قد خص هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو ما أعده الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.

وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقة، لا يعلمها إلا هو.

ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال أحمد في كتابه الذي صنفه في (الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله).

وإنما ذمهم لكونهم تأولوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينف مطلق لفظ (التأويل)، كما تقدم من أن لفظ (التأويل) يراد به التفسير المبين لمراد الله به، فذلك لا يعاب بل يحمد، ويراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذاك لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا في غير هذا الموضع].

أشار الشيخ هنا إلى مسألة مهمة لا بد من الوقوف عندها قليلاً، فقال رحمه الله: (وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو).

أي: أن الحقيقة نفياً وإثباتاً على نوعين: الأولى: بمعنى: المعاني اللائقة بجلال الله عز وجل، وهذه معلومة حتى عند المخاطبين، فنعلم أن الله عالم حقيقة، ورحيم حقيقة، وأنه سبحانه شديد العقاب، وأنه مستو حقيقة على ما يليق بجلاله، لكن حقيقة على المعنى.

الثانية: وهي التي نفاها الشيخ هنا: وهي الكيفية التي عليها أسماء الله وصفاته وذاته، فهذه لا يعلمها إلا الله، بل كل أمور الغيب لا يعلم حقيقتها، أي: كيفيتها، إلا الله عز وجل، مثل: الجنة ونعيمها، فنحن نؤمن بأنها حقيقة، لكن لا نعلم كيفية هذه الحقيقة على جهة التفصيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فلم يقل: على عقل بشر.

بل قال: (على قلب بشر)؛ لأن خاطر القلب أبعد وأعمق من خاطر العقل؛ ولأن خاطر القلب ذوق قد يدركه أصحاب الفراسة وخلص المؤمنين، لكن مع ذلك لا يدركه أصحاب العقول، ومع ذلك: (ولا خطر على قلب بشر) أي: لا يأت في خاطره أصلاً ولا يرد.

إذاً: الحقيقة المنفية في أسماء الله وصفاته هي الكيفيات، لا الحقيقة المثبتة، وهي أن ذات الله وأسماءه وصفاته وأفعاله حقائق على معان تليق بجلال الله، وهذه الحقائق نعلمها بمجملها، لكن لا نعلم حقيقة الكيفية.

<<  <  ج: ص:  >  >>