للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات بعض الصفات بسياقها لا كلها]

السؤال

ذكرت في حديث الهرولة أنها لا تثبت كصفة لله جل وعلا، وذكرت في ذلك ضابطاً وهو: أن أفعال الله التي ترتبط بأفعال المخلوق لا تثبت كصفات لله عز وجل، فما صحة ذلك؟

الجواب

هذا الكلام بإجماله نوعاً ما صحيح، لكن ليس بهذا التعبير، فلا تثبت الصفات مفردة مستقلة عن سياقها، بل لابد أن يؤخذ الكلام بكامله، وأنا لم أقل: لا تثبت الصفات بإطلاق، بل هذه جاءت أوصافاً لله عز وجل، ولا شك في ذلك، لكن لا تفرد كصفات مفردة إلا بسياقها، (من أتاني يمشي أتيته هرولة)، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:١٥]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠]، فهذه العبارات جاءت بمعنى بين وواضح، وهو أن الله عز وجل جازاهم بما عملوا، فجازى أهل الخير بما يستحقونه وزيادة، وجازى أهل النفاق بما يستحقونه وزيادة، وهذا المعنى معروف عند السياق، وهو مربوط بمجازاة العباد، وليس مثل: الاستواء أو النزول أو المجيء أو الصفات الذاتية أو الفعلية التي ورد ذكرها؛ لأنه لا علاقة لها بالعباد، ولذلك قال السلف في هذه النصوص، أعني: نصوص الهرولة والاستهزاء والمكر ونحوها: إنها تمر كما جاءت في سياق بين وواضح، وليس معنى ذلك: أننا لا نعرف لها معنى ولا حقيقة كما يفهم بعض الذين يطعنون في منهج السلف، إذ يقولون: لما عجز السلف عن معرفتها قالوا: تمر كما جاءت.

وفي الحقيقة فإن السلف ما عجزوا، بل هم يعرفون أن القرآن جاء بلسان عربي مبين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الواضح فيما يتعلق بشئون المخلوقات، فكيف بما يتعلق بالخالق عز وجل؟ فلابد أن تكون أسماء الله وصفاته واضحة وبينة في القرآن والسنة، وأن تكون لها حقائق، لكن بعض السياقات جاءت بمعرض المجازاة، وبعضها جاءت بمعرض التهديد، وبعضها جاءت مربوطة بأفعال البشر، فهذه تؤخذ على سياقها، فتمر كما جاءت على أنها حقيقة على ما يليق بجلال الله، لكن أن تفرد صفة فهذا محل خلاف، أو يستنتج منها اسم فلا يجوز، وهذا هو الذي قلته، ومع ذلك فالمسألة خلافية، فبعض أهل العلم يقول: إنها من الصفات التي نثبتها على ما تليق بالله عز وجل، وقد أوردها كثير من أئمة الدين على هذا الشكل، ومعروف مرادهم، وكلامهم لا غبار عليه، لكن الآخرون تورعوا فقالوا: نظراً لأن الأمر يشتبه، وقد خاض الناس فيما خاضوا فيه، ولم يعد الناس على صفاء الفطرة وإدراك اللغة كما كان في عهد الصحابة والتابعين، فإذاً نحترز من إساءة الأدب مع الله، وحتى لا يكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ورد عن الإمام أحمد رحمه الله وهو يروي حديثاً: (أن الله عز وجل يحمل الأرض على إصبع، والسماوات على إصبع)، فرأى أحد طلبة العلم في مجلسه يشير بإصبعه، فقال الإمام أحمد: قطع الله إصبعك، مع أن الرواة يروونها هكذا كما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أنا نسيت هل هو هذا الحديث، أو حديث آخر فيه أنه أشار إلى إصبعه؛ لكن نظراً لأنه أشار في موضع يوجد فيه من لا يدرك، أو من قد يشتبه عليه الأمر، وخاضت الجهمية والمعتزلة وأهل الكلام، ووجد للاشتباه مبرر نهاه الإمام أحمد عن رواية هذه النصوص بهذا النحو عند عامة الناس، ولو أشار إلى إصبعه عند أهل الحديث والعلماء ما أنكر عليه.

إذاً: فالأمر يحتاج إلى مراعاة ما عليه الناس، ودرء الفتن والمفاسد المعتبر درؤها في فهم النصوص.

وهذا كله بخلاف الصفات الذاتية والفعلية، إذ ليست على سبيل المجازاة والمقابلة، فإنها لا بد أن تروى وتثبت الصفة، كاليد والوجه والنزول والاستواء؛ أما تلك فنظراً لأنها جاءت على سبيل المجازاة، فلا بد أن تثبت بسياقها، فنقول: إن الله عز وجل يمكر بالمنافقين، ويستهزئ بالمنافقين.

ولذلك كان من أسباب الخلاف فيها بين السلف: أن بعضهم يقول: هذه أخبار، فلا يلزم أن يثبت منها صفات؛ لأن ما جاء عن الله عز وجل خمسة أنواع: ما يتعلق بذات الله عز وجل، وكل الأسماء والصفات متعلقة بالذات، وما يتعلق بالأسماء، ثم ما يتعلق بصفات الله عز وجل، ثم الأخبار، ثم الأفعال.

إذاً: هذه خمسة أنواع، والأخبار بابه واسع، فلا يلزم أن يثبت منها صفات، ولا يلزم أن يثبت منها أسماء، فبعضهم يرى أنه مثل هذه الأمور من الأخبار تمر كما جاءت على الحقيقة، والذي يقول: تمر كما جاءت لا ينفي إثبات سياقها عن الله، وإنما ينفي إفرادها كصفات مستقلة؛ لأنها إذا أفردت بدون الاحتراز يقع الاشتباه وسوء الأدب مع الله عز وجل، وهذا كله من باب تعظيم الله.

إذاً: انقسم السلف إلى قسمين: منهم من يعتبر هذه النصوص من باب الأخبار، ومنهم من يعتبرها من باب الصفات أو الأفعال، ومع ذلك لم يختلفوا في إثبات حقائقها.

مما ينبغي التنبيه له: أن مثل هذه النصوص لا تذكر عند العامة من الناس، ولا حرج بذكرها عند المتخصصين في علوم العقيدة، أو عند طلاب العلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>