للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأويل متكلمة الأشاعرة والماتريدية لبعض صفات الله باللازم هو لازم لهم في الصفات الأخرى]

قال رحمه الله: [ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض -الذين يوجبون فيما نفوه، إما التفويض وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ- قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جواب صحيح، فهذا تناقضهم في النفي، وكذا تناقضهم في الإثبات، فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه، هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت، والرضا والسخط].

هؤلاء هم متكلمة الأشاعرة والماتردية أو طائفة منهم الذيني يؤولون المحبة والرضا والغضب والسخط، لكن قد تختلف تأويلاتهم، واختلافهم في التأويلات من الحجة عليهم، ومع ذلك فالشيخ هنا ضرب مثالين لأنواع التأويل: هذا واحد، والثاني سيأتي، فيقول: إن أهل الكلام يؤولون المحبة والرضا بإرادة الثواب، والغضب والسخط لله عز وجل بإرادة العقاب، يقول: فهذا الكلام يلزمكم أيضاً في الصفات الأخرى، أي: لماذا فسّرتم فقط المحبة والرضا بإرادة الثواب، وأثبتم صفات أخرى مثل: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والخلق وغيرها؟! لأنهم يثبتون هذا ويؤولون ذاك، وكذلك في بقية الصفات، وهناك من يؤول تأويلاً آخر، وسيأتي الإشارة إليه أيضاً على نفس القاعدة.

فالشيخ يقول: الذين أوّلوا المحبة والرضا بإرادة الثواب، والغضب والسخط بإرادة العقاب، يثبتون الإرادة، والإرادة نفسها لها تفسير هو من لوازمها، فيقول: أنتم تقولون بالإرادة، مع أن الإرادة حسب ما نعرف في المخلوقات ألا تكون الإرادة إلا عند عاقل إذا كانت المسألة مسألة قياس، مع أن هذا لا يجوز لله عز وجل، لكن من باب ضرب استدلالاتهم ببعضها ليسقط استدلالهم على التأويل، أيضاً يقول: الإرادة لا يمكن أن تكون إلا بباعث وقصد في النفس، فهل نصرف أيضاً إثبات الإرادة عن الله عز وجل؟ لأن أي معنى لا بد أن يكون له حقيقة ولوازم، وأي لفظ من الألفاظ له حقيقة ولوازم، هذه الحقيقة تُثبت لكل موصوف بحسبه، فألفاظ أسماء الله وصفاته حقائق، لكنها على ما يليق به، وأسماء وصفات المخلوقين حقائق، لكنها على ما يليق بهم، ولذلك هذه الحقائق لا تثبت ولا تُصرف إلى لوازمها، وهم الآن قد صرفوا الغضب إلى لازم، ومن لازم الغضب غالباً الانتقام، ومن لوازم المحبة غالباً الثواب، فهم فسّروا الصفات بلوازمها، فهو يقول: فكذلك الإرادة فسّروها بلازمها، وإلا فلماذا جعلتم لله عز وجل إرادة ولم تثبتوا له محبة ورضا؟! ثم إن إثبات اللازم لا يعني إسقاط حقيقة الملزوم، فإذا كان أحياناً من لوازم المحبة الثواب، ومن لوازم السخط العقاب، فلا يعني ذلك أن يُفسَّر الأصل بلازمه، وإلا لقلنا بهذا في جميع أسماء الله وصفاته، حتى يصير الأمر راجعاً إلى الخلق؛ لأن آثار الصفات هي في الخلق، فيرجع تفسير الصفات كلها إلى الخلق نفسه، ومن هنا تنتفي، وهذا ما يذهب إليه الفلاسفة الذين لا يرون لله عز وجل وجوداً حقيقياً، وإنما وجوداً مجرداً، ويفسّرون جميع أسماء الله وصفاته، أو دلالات عظمته بالخلق نفسه، وكذلك الذي يفسّر اللازم وينفي الحقيقة لا بد وأن يحصر الصفات والأفعال بالمخلوقين، ولذلك فعلاً نجدهم - أي: أهل الكلام - دائماً يفسّرون أفعال الله بمخلوقاته، فلا يثبتون لله الأفعال، فأفعاله هي مخلوقاته، مع أن المخلوقات هي آثار أفعاله وصفاته عز وجل.

قال رحمه الله: [فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت، والرضا والسخط، ولو فسّر ذلك بمفعولاته -وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب- فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه، فإن الفعل لابد أن يقوم أولاً بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات].

<<  <  ج: ص:  >  >>