[نفي ما نفاه الله عن نفسه من غير إلحاد في أسمائه وآياته]
قال رحمه الله: [وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد، لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:١٨٠]].
هذه القاعدة بيان للقاعدة التي قبلها، وهي نوع من استظهار القاعدة السابقة بأسلوب آخر، ولذلك قال: (وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع إثبات ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد)، والإلحاد هو التعطيل والتحريف الذي أشار إليه؛ لأنه كله إلحاد، لكن هناك إلحاد خالص وهو كفري، وإلحاد غير خالص وهو بدعي، فالتحريف والتأويل بدعة، وهو نوع من الإلحاد، والتعطيل كفر، وهو نوع من الإلحاد، وكلها تدخل في قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:١٨٠]، أي: في أسمائه وصفاته، سواء بالتعطيل أو التأويل.
قال رحمه الله: [وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:٤٠] الآية.
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] رد للإلحاد والتعطيل].
نجد أن من السمات والمميزات التي ميز الله بها أهل الحق أنهم لا يحتاجون في الاستدلال على القواعد الكبرى إلى كبير عناء وجهد، بل يستطيع أصغر طلاب العلم إذا فقه أن يستدل على الحق بأيسر أسلوب وأخصر عبارة.
ولذلك فإن هذه الآية -التي تمثل القاعدة التي أشرت إليها قبل قليل- من تمثلها واستشعرها دائماً فإنه بإذن الله سيوفق ويسدد للحق والصراط المستقيم، كما نجد أن الذين ضلوا سواء من أهل التشبيه أو من أهل التعطيل -وهم على طرفي نقيض- ما فقهوا هذه الآية، ولو فقهوها ما خرجوا عن الصراط المستقيم، وهي رد عليهم جميعاً.
ففي قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، يتمثل الحق الذي هو نفي النقائص والمماثلة عن الله عز وجل، وإثبات الصفات لله عز وجل على نحو مفصل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]؛ لأن من أثبت السمع والبصر أثبت بقية الصفات، ولزمه أن يثبت كل ما ثبت لله عز وجل في الكتاب والسنة.
وهذا أنموذج هذه القاعدة: لذا فالمشبهة الممثلة المجسمة، وهم من الرافضة المشبهة الأوائل، وقفوا عند قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، ولم يعتبروا بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].
وكذلك العكس، فالمعطلة والمؤولة الذين خاضوا في الأسماء والصفات، سواء الذين حرفوها بالتعطيل أو التأويل، كلهم غفلوا عن قوله عز وجل: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، وهؤلاء وأولئك لو أخذوا بهذه القاعدة التي يستطيع أن يحفظها كل مسلم -وهذا من يسر دين الله عز وجل- وكل عالم وطالب علم وكل جاهل وعامي، وكل من أعطاه الله عقلاً، لسلموا من الوقوع في الخطأ والزلل.
إذاً: فهذه القاعدة هي الميزان الذهبي في جميع مسائل وأمور الدين، وليس فقط في الأسماء والصفات، لكن عندما اختلت عند أهل الأهواء اختلت مناهجهم، فالذين أخذوا بأول الآية دون آخرها وقعوا في التعطيل، والذين أخذوا بآخرها دون أولها وقعوا في التشبيه، ولذا كان أكبر خطأ وقع فيه أهل الأهواء والبدع والافتراق أنهم أخذوا بالنصوص التي تصلح لهم وتركوا ما لا يوافق أهواءهم، كما أنهم لا يجمعون بين نصوص الشرع.
إذاً: هذه القاعدة مثال لكل مناهج أهل الأهواء والبدع، وليس فقط محصورة في الأسماء والصفات، فجميع أهل الأهواء والبدع قامت مناهجهم في الاستدلال على هذا النحو، فيأخذون من الأدلة ما يوافق مناهجهم، ويتركون ما لا يوافق مناهجهم، ولو أخذوا بشمولية الأدلة على نهج السلف في الاستدلال لما وقعوا في الضلالة، إن كانوا يريدون الحق، وإلا فمن أراد الله له الغواية فلا هادي له، نسأل الله العافية.