[الجواب الثاني: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتت به تلك من العقليات]
قال المصنف رحمه الله تعالى:[الثاني: أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته -وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة- تدل على حكمته البالغة; كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة].
في الحقيقة هذا رد علمي موضوعي كما يعبر به كثير من المعاصرين الذين يعجبون بالشعارات الغربية ممن يسمون بالعلمية والموضوعية، فإذا أخذناه على مقاييسهم فهذا الكلام علمي وموضوعي واستقرائي وعقلي، ولا يستطيع أن ينفك عنه لا المؤولة ولا المعطلة، والشيخ هنا قد رجع إلى الأشاعرة وقال لهم: كما أنكم أثبتم الصفات السبع، وقيل لكم: لماذا أثبتموها؟ قلتم: أثبتناها بالعقل، ونحن إذا تأملنا عقلاً لوجدنا أن الفعل الحادث دل على قدرة الله عز وجل، وأن التخصيص كون المخلوقات مميزة بعضها عن بعض، هذه سماوات وأرضون وأحياء وأموات، هذا يسمى تخصيصاً، ووجود التمييز بين المخلوقات يدل على الإرادة، والإحكام -إحكام المخلوقات- يدل على العلم، وهذه الصفات كلها مستلزمة للحياة؛ لأنه لا يمكن أن يكون قادر ومريد وعالم إلا حياً، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، فنقول لهم: اطردوا هذه القاعدة.
كما نقول أيضاً: وجود الرحمة والنفع، أي: نفع العباد بالإحسان، يدل على الرحمة، وكذلك التخصيص يدل على المشيئة والحكمة، مع أن الشيخ لم يذكر الحكمة في هذا المقام، لكنه أتى بها بعد ذلك، فدلالة التخصيص كما تدل على المشيئة تدل على الحكمة أيضاً، وأنتم قلتم: تدل على الإرادة، أو أضيفوا مع الإرادة الحكمة، وإكرام الطائعين يدل على المحبة، وعقاب الكافرين يدل على البغض، وهكذا بقية الأمور، فنقول لهم: كما أثبتم القدرة بالفعل، والتخصيص بالإرادة، والعلم بالإحكام، وبقية الصفات، كالحياة والسمع والبصر؛ لأنها من لوازم الحياة، فكذلك بقية الصفات، مثل: الرحمة والمحبة والمشيئة والبغض والحكمة ونحو ذلك، فكل هذه دلت عليها مخلوقات الله عز وجل، وشئون الله في خلقه دلت على هذه الصفات، والله عز وجل له في خلقه شئون نراها يومياً في حياتنا الخاصة والعامة، وكلها دليل على بقية صفات الله، فنرى أثر محبة الله في عباده، ونرى أثر غضب الله في عباده، ونرى أثر حكمة الله في مخلوقاته، ونرى أثر كثير من أفعال الله، مثل الرزق والإحياء والإماتة وغير ذلك في مخلوقاته، فلماذا جعلتم بعض الأشياء دالة على نوع من الصفات، ولا يدل على النوع الآخر منها؟ إن هذا هو دليل انغلاق أهل الأهواء على أهوائهم، وعدم إدراكهم لعموم القواعد الشرعية، ولذا فإن المتأمل سيلاحظ أنه لا يوجد كما عند أهل السنة والجماعة في تعميم دلالات النصوص على الوجه الصحيح، فهؤلاء يغلقون دلالات النصوص بأهواء يضعونها لأنفسهم، وينتقون في الاستدلال انتقاء، فلا يأخذون بشمولية الاستدلال، وإلا فأدلتهم العقلية كما ذكر الشيخ هي دليل عليهم، وكما أن العقل يدل على الصفات السبع، فكذلك يدل على بقية الصفات من باب الضرورة، وكلها كمال، فلماذا كانت الإرادة والعلم كمالاً، والمحبة والحكمة غير كمال؟! إن هذا مما يعجب منه صاحب العقل السليم.
كما أنهم يقولون بعدة وجوه، فلا يثبتون السمع على حقيقة ما يثبته السلف، ولهم في ذلك تأولات كثيرة، لكن نوجزها: فهم يرون أن السمع هو العلم بالمسموعات، فيردونها إلى العلم، والبصر هو العلم بالمبصرات، وهذا مجمل قولهم، وإلا فلهم في ذلك مسالك عجيبة، فهم في الحقيقة لا يثبتون حتى السمع والبصر على وجهها الشرعي، ولذلك أكثر ما رد عليهم المعتزلة في إثبات السمع والبصر، يعني: أنهم هم قد يوافقونهم في بعض الصفات الأخرى، لكن في السمع والبصر قال المعتزلة للأشاعرة: لماذا أثبتم السمع والبصر ولم تثبتوا اليد والوجه؟ بالرغم أن قاعدتهما واحدة، والمعتزلة يقولون نحو ما قالت الأشاعرة: كما أنكم تقولون: اليد لا تكون إلا الجارحة، يقولون: نحن لا نعرف السمع إلا الجارحة، والبصر إلا الجارحة، وهؤلاء لا نوافقهم كلهم، لكن هكذا يضرب بعضهم بعضاً، لذا فأقول: إثباتهم للسمع والبصر على غير قاعدة عقلية صحيحة، وأيضاً على غير القاعدة المطردة عندهم، لكنهم تورعوا عن نفي السمع والبصر، ولذلك أولوهما، وأكثر ما يدور تأويلهم على أن البصر العلم بالمبصرات، والسمع العلم بالمسموعات.