للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من شبه المعتزلة أن إثبات الصفات يستلزم تعدد الموصوف]

قال رحمه الله تعالى: [وقد يفرق بين لفظ (التشبيه) و (التمثيل)، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبه ممثل، فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن القديم عند جمهورهم هو أخص وصف للإله، فمن أثبت له صفة قديمة فقد أثبت لله مثلاً قديماً، ويسمونه ممثلاً بهذا الاعتبار].

في الحقيقة هذه فلسفة فيها مكابرة، وفيها دليل على أن الإنسان قد يصاب بالغرور واتباع الهوى، فلا يعتمد في دينه إلا على العقل، فيقول: بأن تعدد الصفات لابد أن يدل على تعدد الموصوف؛ لأنهم قالوا: إن القديم أخص وصفاً بذلك، فمن أثبت صفة قديمة فقد أثبت له مثلاً قديماً؛ لأنهم يعتبرون أن الصفة غير الموصوف، فصارت نداً، فإذا أثبتنا أنها أزلية فمعنى هذا أننا أثبتناها إلهاً مع الله، أو خالقاً مع الله، وهذه مكابرة راجعة إلى أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقاً ذاتياً، وإلا لو اعتقدوا لله وجوداً ذاتياً حقيقياً للزم اعتقاد أن له صفات تلازمه؛ لأنه لا يمكن لموجود حقيقي إلا أن يكون موصوفاً بصفات الكمال كلها، يعني: أن الوجود الحقيقي الأزلي لا يمكن أن يثبت وجوداً لله عز وجل حقيقياً أزلياً إلا ولابد أن يكون موصوفاً بصفات الكمال؛ لأن ما بعده من المخلوقات حادث، والحادث لا يمكن أن يعتمد إلا على كامل؛ لأنه مفتقر، ولابد أن يكون معتمداً على غني، وهو الله عز وجل، ولابد أن يكون معتمداً على خالق، وهو الله عز وجل، ولابد أن يعتمد على ما لا يفنى، وهو الله عز وجل، فهذه صفات تلحق بالموصوف، وتلازمه من حيث إنها صفات أزلية، لكن نظراً لأنهم يعتبرون وجود الله وجوداً ذهنياً معنوياً خيالياً -هم عادتهم يختلفون- فقد أنكروا الصفات؛ لأنها تلزمهم بوجود الموصوف وجود حقيقي مباين للمخلوقات، وهم إذا أثبتوا هذا الوجود لزمهم إثبات الصفات، فهم يفرون من إثبات الصفات، ولنا مع الأشاعرة والماتريدية الذين انساقوا مع هؤلاء في بعض أصولهم نفس الكلام، فنقول لهم: إذا كنتم أثبتم لله عز وجل وجوداً ذاتياً حقيقياً يليق بجلاله، ومبايناً للمخلوقات، وهذا الوجود قابل للصفات ولابد، فإذاً لم فرقتم بين الصفات؟! فإذا كان لله علم ليس كعلم المخلوقين، وقدرة ليست كقدرة المخلوقين، وكلام ليس ككلام المخلوقين، وسمع ليس كسمع المخلوقين، وهم يقرون بذلك، إذاً له استواء ليس كاستواء المخلوقين، ويد ليس كيد المخلوقين؛ لأن ذلك كله ثابت بالنصوص، وهذا دليلنا، وإلا لو كان مجرد تحكم للعقل لعذرناهم؛ لأن لكل إنسان أن يعقل كما يشاء، ولا نلزمه إلا بالثوابت الكبرى التي هي مجملات عند التفصيل، والتي يختلف عليها الخلق كلهم.

وقد وجدت في بعض ألفاظ السلف عبارات أحياناً تزيد عن الحد الشرعي، وهذه اجتهادات وليست هي منهج السلف، وإنما منهجهم هو إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال، بما فيها الصفات الذاتية على ما يليق بجلاله، فقد وردت في الكتاب والسنة، ونبرأ إلى الله أن نقول: هذه مصدرها العقل، أو معرفتنا، أو جهودنا، أو هذه مجرد أن اتفق عليها السلف، لا والله، فالسلف لا يقولون بذلك، بل قد ثبتت في الكتاب والسنة، فما الذي يلجئ إلى الحيدة عنها غير مجرد التوهم والتشبيه؟ ثم لماذا الصحابة ما توهموا التشبيه ليفروا إلى التأويل؟ ولماذا التابعون ما توهموا التشبيه وهم أعلم وأفقه باللغة، وهم أعظم إجلالاً وتعظيماً لله، وهم أيضاً أحرص على كمال الله عز وجل وصفاته؟! إن من الطبيعي أن يوجد عندهم التوهم، لكنهم طردوا الأوهام بالحقائق، وإلا فهم عرب أقحاح لابد أن ترد عندهم مسألة الاشتراك اللفظي، يعني: أن أي إنسان يسمع قول الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤]، لابد أن يقع في ذهنه تشابك المعاني بين ما يفهمه من يد المخلوق وبين ما يجب أن يعتقده في اليد لله عز وجل، ولذلك الله عز وجل وضع القاعدة بالنفي قبل الإثبات: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، لأن الإنسان قد يتوهم، بل لابد أن يتوهم عند سماع كلام الله، ثم قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فبدأ بالنفي قبل الإثبات؛ ليستقر في العقل نفي كل الخيالات والأوهام، وإلا فهل يخلو إنسان من أن يتخيل؟ إنه لا يمكن أن يعرف معاني كلام الله إلا بالتخيل، لكن يجب أن يعرف أن هذا خيال، والله عز وجل أعظم وأجل من أن يرد العبد صفات الله بخياله.

إذاً: فهذه المسألة تعتبر الفارق بين أهل السنة وبين المخالفين من أهل الكلام في معنى التشبيه والتمثيل، فالتمثيل منفي كله؛ لأن التمثيل هو المطابقة، وليس بين الخلق والمخلوقات مطابقة، حتى في اللفظ، وأما التشبيه ففيه مطابقة لفظية، فلذلك نفصل فيه، فإن قصد بنفي التشبيه نفي صفات الله فهذا باطل، وإن قصد بنفي التشبيه نفي المماثلة فنعم، فالله عز وجل ليس كمثله شيء.

<<  <  ج: ص:  >  >>