قوله:(ولكنهم من أهل المجهولات) أي: أن أصول أهل الأهواء والبدع، وعلى رأسهم الذين ضلوا في باب الأسماء والصفات والأفعال لله عز وجل، إنما تقوم على الجهل والأوهام؛ لأن الكلام في الغيب عموماً، وفي أسماء الله وصفاته وأفعاله بالذات، لا سبيل إلى معرفته على جهة التفصيل، لا بالعقل ولا بالفطرة ولا بالعلم الحسي.
ولو تناولته الحواس لما كان من الغيب، والله أعظم وأجل من أن تتناوله الحواس.
إذاً: هؤلاء ليس عندهم إلا المجهولات التي هي أوهام وتخرصات وخيالات، ثم إنهم اتصفوا بالمجهولات لأنهم لا يعتمدون على الوحي، وإذا استدلوا بالوحي استدلوا به على وجه باطل، كالأخذ بالمتشابه، وجر الدليل إلى غير ما يدل عليه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله كما ذكر الله عنهم.
وقوله:(المعقولات)، أي: أنهم يشبهون خيالاتهم الفاسدة بالمعقولات التي قد تكون معقولة في عالم حياة الناس، فمثلاً: الفلاسفة لهم فلسفة معقولة صحيحة في العلوم الطبيعية، كالرياضيات وغيرها، فإذا قالوا: ١+١=٢ فهذا حق؛ لأنه أمر معلوم ويدخل تحت مدارك الناس، وكونه معلوماً لا يعني أننا نلحق به غير المعلوم، فهم شبهوا أوهامهم وتصوراتهم عن الغيب بالمعقولات، ولذلك أكثر ما يفتن أجيال المسلمين الآن قديماً وحديثاً بالفلاسفة هو: أن بعض الفلاسفة لهم إسهام في العلوم الطبيعية والعلوم التجريبية، فمثلاً: ابن سينا، هذا رجل اعتقاده فاسد ويعترف بذلك، فيعترف بأنه باطني إسماعيلي، لكن له كلام جيد في الطب، وكونه أجاد في الطب لا يعني أنه محق في كلامه عن الله عز وجل بالباطل، فحينما جانب الوحي فيما يتعلق بالله عز وجل وبأمور الآخرة وغيرها وقع في الباطل المحض، ووقع في الكفر، وحينما تكلم في العلوم الطبيعية أجاد، ولا فضل له في ذلك؛ فإن العلوم الطبيعية يستوي فيها المسلم والكافر، إذ هي علوم عقلية تتعلق بعالم الشهادة.
وكذلك بقية الفلاسفة، وأنا قد لاحظت في الآونة الأخيرة خاصة من خلال غوغائية الإنترنت، أن كثيراً من الناس يتعاطف مع الفلاسفة، ويستنكر على من يتكلم فيهم، ونسي هؤلاء أن الفلاسفة ليسوا على دين، فهم تالفون في الاعتقاد، إذ أن دينهم هو الإلحاد، وأما كون بعضهم أجاد في العلوم الطبيعية فهذا أمر آخر، ولا دخل له في الدين، يقول بعضهم: كيف تتكلمون في ابن سينا وهو الطبيب المجيد؟! بل بعضهم قال: والموسيقار فلان؟! ويا ليتنا سلمنا من موسيقاه! وعلى أي حال ينبغي أن يتعلم الشباب الانضباط في الموازين الشرعية.
وهذا هو معنى كلام الشيخ:(المشبهة بالمعقولات)، فإنهم ظنوا أنه بإمكانهم أن يتطاولوا حتى على الغيب، فقاسوا الغيب بالشهادة، وقاسوا الشهادة بالغيب، فصاروا من الخراصين الذين ذمهم الله عز وجل.
وأما تشكيكهم في العقليات، فمعنى هذا: أنهم سلكوا طريق السفسطائية من الفلاسفة الذين يتعمقون فيما لا تدركه العقول، والسفسطة هي الكلام الذي لا قيمة له، والكلام التافه الذي لا يستند إلى عقل ولا إلى فطرة ولا إلى دين، وكل الفلسفة سفسطة، وكل ما وراء الطبيعة فلسفة حسب مصطلحهم، أو كل ما يتعلق بالغيبيات فلسفة وسفسطة، وكلها لا أصل لها.