قال رحمه الله تعالى:[والكلاّبية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته، وأصحاب ابن كلاب، كـ الحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل].
كان ابن كلاب على مذهب أهل السنة والجماعة، وكان من أهل الحديث، ثم احتسب في مناظرات أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، لكنه زاد وأفرط في ذلك، فدخل في المراء واللوازم العقلية، ونهاه السلف عن ذلك، لكنه تمادى ولم ينتصح، مما جعله يستخدم أساليب لنصر السنة ليست من السنة، وهي أساليب عقلانية وفلسفية وكلامية، وكأنه أراد أن يرد بها على أهل الكلام، فاستدرجوه إلى بعض أصولهم، ومما استدرجوه إليه: مسألة أفعال الله عز وجل، فقد وافق المتكلمين في أن الله عز وجل لا يمكن أن تكون لأفعاله مفردات أو حادثات، زعماً منه أننا إذا فتحنا هذا الباب فقد فتحنا باب التشبيه، وكأنه أراد أن يقر لهم بأن الله عز وجل لا يُثبت له من الصفات الفعلية ما هو متجدد أو ما هو حادث، مع أن هذه المسألة لها وجهة، والمهم أنه أقفل باب ما يسمى بمفردات الأفعال لله عز وجل، مثل الكلام وغيره، فقال في كلام الله: إنه كلام معنوي قائم بالنفس، وكذلك بقية الأفعال جعلها لازمة، والصحيح والذي عليه السلف هو أن أفعال الله عز وجل أو الصفات الفعلية لها وجهان: من حيث إنها متعلقة بذات الله عز وجل، والتي هي ما يوصف به مما يتعلق به سبحانه، فهذا لا شك أنه لا يحدث له فيه شيء، حتى وإن حدثت لوازمها أو آثارها، وهناك نوع متعلق بالصفات أحياناً يعبّر به على أنه من الصفة، وهذا غلط، وإنما هو آثار صفات الله، فمثلاً: صفة الخلق لله عز وجل، فالله موصوف بالخلق قبل وجود المخلوقات، وحينما خلق لم تتجدد له صفة الخلق.
وكذلك الكلام، فالله عز وجل موصوف بالكلام قبل أن يوجد للكلام موجب، ثم تكلم بما شاء من ذلك، وحينما فعل الله عز وجل ما أراد أن يفعله لم يكن ذلك تجدد في ذات الصفة، وإنما هو تجدد في آثار الصفة وفي المفعولات لا في الأفعال بذاتها؛ لأن أصل الصفة ثابتة لله عز وجل حتى قبل وجود الأثر، لكن ابن كلاب جعلها لازمة، ومن هنا التزم بأن الكلام لله عز وجل معنى قائم بالنفس، وأنكر أن يكون الكلام بحرف أو صوت، ثم صار هذا مذهباً، ونتج عن هذا المذهب إنكار أو تأويل كل الصفات الفعلية لله عز وجل، ومال الأشعري رحمه الله إلى قول ابن كلاب في ذلك، لكن بحذر وبتورع، وأُخذ عليه ذلك حتى في كتبه الأصلية، مثل:(الإبانة)، وهو غير واضح، لكن في (اللمع) واضح، و (رسالة إلى أهل الثغر)، وهي واضحة في أنه قد تأثر بهذه النزعة، ومع ذلك يثبت الصفات الذاتية لله عز وجل، ويثبت الصفات الفعلية، لكنه وصف بعض الصفات بالوصف الذي لا يدل على حدوث ما يريد الله عز وجل من الصفات الفعلية، وإنما جعلها لازمة، فهذا تعبير مبسط، وإلا فهناك تعبيرات أكثر غموضاً، ولعله تأتي لها مناسبة فيما بعد من أجل تنظير هذه القضية، فلا نستعجلها الآن.
والشاهد هنا أن الأشعري لم يقل بما قال به متأخرة الأشاعرة، لكنه فتح باباً توسّع معه الأشاعرة، وهو تبع ابن كلاب، فتوسع بعد ذلك أهل الكلام في هذه المسألة حتى تدرجوا إلى تأويل أكثر الصفات الفعلية، وكذلك الصفات الخبرية من باب أولى.