[مذاهب طوائف ضلت من جهة التشابه]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد وصلنا في التدمرية إلى القاعدة الخامسة عند قوله: وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات.
ولا يزال الشيخ يتكلم عن الاشتباه والتشابه، والفرق بين هذا وذاك، هذا من ناحية، والناحية الأخرى: لا يزال الشيخ يتكلم عن القياس الفاسد الذي هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما ليس فيه من جانب آخر، والتفريق بين المجتمعين، والجمع بين المفترقين، إذ إنه سبب ضلال كثير من الضلال في العقيدة وفي غيرها، كما لا يزال الشيخ يقرر مذاهب طوائف ضلت من هذه الجهة، أي: في عدم الجمع بين المتشابهات من الوجوه التي تجتمع فيها، ومن التفريق بين المتشابهات أحياناً ووجوه تفترق فيها، ومن عدم التفريق بين الاشتباه والتشابه بين الشبه والتشابه، وبين الاجتماع والافتراق وما بينهما من تداخل وتقاطع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر إلى من يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، وأن يكون إياه أو متحداً به أو حالاً فيه من الخالق مع المخلوق].
لأن هذا أمر بدهي بالفطرة وبالعقل السليم وبقواعد الشرع القطعية، بأن الله عز وجل ليس كمثله شيء في جميع الأحوال، في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ ولأنه يستحيل أن يكون المخلوق كالخالق في وجوه التشابه من حيث الكمال، وعليه فالتشابه لفظي أو نسبي في بعض الحقائق النسبية التي النسبة فيها لا تساوي شيئاً، وسيأتي وجوه ضرب أمثلة على وجوه الاشتراك اللفظي، وأيضاً مدى ضلال الذين ضلوا إما في التشبيه بسبب وجود التشابه اللفظي في ذكر أسماء الله وصفاته، أو العكس، أي: نفي التشابه إلى حد تسلطوا فيه على نفي قطعيات النصوص في الكتاب والسنة.
قال رحمه الله تعالى: [فمن هنا اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها، حتى ظنوا وجودها وجوده، فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع.
وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى (الوجود) لزم التشبيه والتركيب فقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث ونحو ذلك من أقسام الموجودات].
كلمة (قديم) من الشيخ رحمه الله مجاراة لأهل الكلام في اصطلاحاتهم؛ لأنه يناقشهم هنا، ولذلك فأنا أشعر بشيء من الضيق والتذمر من قراءتنا لهذه المقاطع، ولولا أنها رغبة عدد من الحاضرين من طلاب العلم -إن شاء الله- المتمكنين في الجملة، وإلا فلسنا بحاجة إلى مثل هذه التعمقات، والشيخ إنما كتب هذا لأهل الكلام، أو للذين ابتلوا ببعض مصطلحات أهل الكلام، أو الذين يخشى عليهم من الانجرار وراء الكلاميات، وخاصة في ذلك الوقت، والذي بدأ مثله الآن في الآونة الأخيرة وفي وقتنا الحاضر، إذ إننا نرى طوائف من شبابنا الآن قد استهوتهم الكلاميات، واستهوتهم مناهج العصرانيين والعقلانيين والمعتزلة، حتى إنهم الآن أصبحوا جماعات وخلايا خطيرة تدعو إلى هذا المنهج، فهؤلاء قد ينفع معهم الدخول في مثل هذه الأمثال.
والشاهد أن الشيخ حينما قال: إن الوجود ينقسم إلى قديم، ومحدث.
مجاراة منه لأهل الكلام في استعمال الاصطلاح، فهو أراد أن يقنعهم ويناقشهم، وإلا فالمفروض أن يقول: إن الوجود ينقسم إلى أزلي ومحدث، أو إلى: الأول الذي ليس قبله شيء، والمخلوق الذي يعتريه النقص والخلل إلخ، بمعنى: أنه مقرر في نفوس العقلاء أن الوجود منه وجود الله عز وجل، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، بدون ما نستعمل القديم، وإلى وجود المحدثات التي وجدت من لا شيء، وكانت شيئاً بعد أن لم تكن شيئاً، والتي مصيرها الخلل والسهو والنسيان بالنسبة لتصرفات العقلاء، ومصيرها الفناء بالنسبة لجميع الخلق.
إذاً: المقارنة بين الأول والمحدث مقارنة لا تكون إلا في بعض وجوه المعاني العامة المشتركة، والاشتراك اللفظي في بعض الصفات، مثل: الوجود، فهو اشتراك نسبي، فإذا نسبناه إلى الله عز وجل فهو الوجود المطلق الذي ليس قبله شيء، وليس بعده شيء، وإذا نسبناه إلى المخلوق فهو وجود نسبي ضئيل، ووجود محكوم بالفناء وهكذا.