قال رحمه الله تعالى:[ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإحكام والتشابه الذي يعمه، والإحكام والتشابه الذي يخص بعضه].
أي: أن الترادف يقع من وجه والتباين يقع من وجه، ومعنى كونه مُحكماً، أي: أنه لا ينقض بعضه بعضاً، وأنه لا يعتريه السهو ولا النقص ولا النسيان ولا الضعف ولا الجهل ولا أي نوع من أنواع النقص التي تعتري كلام البشر، فالقرآن محكم كله.
ومعنى كونه متشابهاً، أي: أنه لا يناقض بعضه بعضاً، فقصصه تتشابه، وأحكامه تتشابه، وألفاظه تتشابه، ومعانيه تتشابه، ووجوه البلاغة فيه تتشابه، ووجوه البيان تتشابه، وأساليبه تتشابه.
إذاً: التشابه العام هنا راجع إلى الإحكام، فمن وجوه كونه محكماً أنه متشابه، وتشابهه أيضاً دليل على إحكامه، هذا من وجه، لكن من وجه آخر أيضاً جعل منه ما هو محكم وليس بمتشابه، ومنه ما هو متشابه وليس بمحكم، ولذا رجعنا إلى المفهوم الآخر للإحكام والتشابه، وهو أن الإحكام هنا المقصود به وجه من وجوه المعاني التي اشتمل عليها القرآن، وهو الإحكام، بمعنى: الوضوح الذي لا يحتاج إلى تفسير، والبيان الذي يكون لجميع الناس ولجميع السامعين أو نحو ذلك؛ لأن الإحكام أوسع من المتشابه من هذا الوجه، ومنه متشابه يجهله البعض.
أي: أنه يصعب فهمه على غير العالم، وعلى غير من يفقه العربية، إذ إن تشابه معانيه بمعنى: أنها تشكل على بعض الناس، والإشكال ليس في ذاتها، وإنما الإشكال في فهوم الناس.
إذاً: القسم الآخر من الإحكام والتشابه هو أن من القرآن ما هو بين واضح لا لبس فيه عند جميع الناس، ومنه ما فيه نوع غموض على بعض الخلق وليس على الجميع، أيضاً يرد في التشابه معنى آخر: وهو التشابه الخاص، أن منه ما هو مشتبه على جميع الخلق، فلا يفهمون كيفياته، ومحكم من وجه أن الله عز وجل هو العالم بحقيقة كيفيته.
وعلى هذا تكون هذه الألفاظ تحمل على سياقاتها ومعانيها، فإذا جاء في القرآن متشابه، فيعني به: غير المحكم الذي يخفى على بعض الناس، فيشتبه عليهم فهمه، وليس بذاته، وإنما بفهوم الناس، والمحكم هو البين الواضح، وهذا ينسحب على كثير من ألفاظ الشعر، ويذكرنا هذا بما ينبغي علينا عند الاستدلال أن نتأكد من تطبيق هذه المعاني، وأن نعرف أن القرآن وألفاظ السنة تأتي على وجوه من حيث الخصوص والعموم، من حيث الإحكام والتشابه، من حيث البيان والإجمال وما يفسر، ومن حيث النسخ وعدمه إلى آخره، بمعنى: أنه لا يجوز لنا أن نأخذ نصوص الشرع لأول وهلة حتى نردها على النصوص الأخرى وسياقاتها، وقواعد الاستدلال التي يعتمدها السلف في تفسير النصوص، ولذلك لما جاوز أهل الأهواء والبدع هذا المفهوم في التفريق بين التشابه العام والإحكام العام، وبين التشابه الخاص والإحكام الخاص، وخفيت عليهم هذه الحقيقة التي هي من أكبر الحقائق التي يجب العمل بها في تفسير القرآن والنصوص، وجهلوها وتجاهلوها، وقعوا في الخبط والخلط والأهواء والبدع في المقالات التي أدت إلى فرقتهم عن السنة والجماعة.