[الجواب الأول: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل].
القائل أو المتكلم هنا: الأشعري والماتريدي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك.
قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان: أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل].
قوله: (أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين)، أي: يقال للأشعري: إذا زعمت أيها المتكلم أن إثبات المحبة مثلاً أو الإحسان أو الرضا لله عز وجل أو الغضب، أو غيرها من الصفات الفعلية لا يدل عليها عقلك، فلا يعني ذلك عدم صحة المدلول؛ لأن ذلك قد ثبت في الكتاب والسنة، وعليه فيلزمك أن تأتي بالدليل الذي يدل قطعاً على رد ما جاء في الكتاب والسنة، ومع ذلك فلن يستطيع الإتيان بدليل، بالرغم أننا نحاجهم بقاعدتهم، لكن نحن أهل السنة والجماعة نقول: هل هناك أقوى دليلاً من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟! ليس هناك أقوى.
إذاً: يلزمه الدليل حتى ينفي ما يثبت، أما أن يسلط هذه القاعدة الموهمة الملبسة، والتي تشتبه على كثير من الناس، ويقول: العقل لا يدل على هذه الصفات، وهي ثابتة في الكتاب والسنة، فذلك كلام مرفوض؛ لأن ثبوتها عندنا لا تتوقف على العقل، فهي فوق العقل، وكلام الله فوق العقل، وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق العقل.
كما أن إثبات الصفات الفعلية، كالمحبة والرضا والغضب والنزول لا يدل عليها العقل كما تزعم، فلا يعني ذلك عدم وجود المدلول، وهو إثبات الصفة، فإن النافي هنا هو الذي يحتاج إلى دليل؛ لأن الثبوت هو الأصل، ونحن لم نثبت شيئاً من عندنا، لكن إن أثبتنا شيئاً من عند أنفسنا فيلزمنا الدليل، أما إذا قلنا: قال الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نطالب بالدليل ونحن أهل الدليل؟! إن هذا من التلبيس الذي ينطوي على بعض الأغرار من الناس، وخاصة ممن لم يوفق لطريق السلف، أو عندهم شيء من الغرور، أو قلة الفقه في الدين، لذا فإن كثيراً من الناس إذا جئته بمثل ذلك ينبهر، ولا يعرف كيف يرد؛ لأنه ما عرف أصول الاستدلال، وكيف يكون الرد على مثل هذه الشبهات.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم].
هذه فائدة مهمة جداً لطلاب العلم اليوم، وهي أن من أسباب الفتنة على المثقفين وشبابنا في العصر الحاضر تلبيس أصحاب الأهواء والافتراق والبدع عليهم، بأن يقولوا في كثير من أمور الدين، أو في القضايا التي تتعلق بمناهج السلف وأصول السنة: هذا أمر ليس عليه دليل، أو أحياناً يقولون: هذا لا يدل عليه العقل، أو أن هذا ينفيه العقل، أو أن العقل ينفر منه، أو أن العقل لا يصدقه، أو أحياناً يقولون: هذا الأمر الفلاني الذي جاء في الشرع يتنافى مع العلم الحسي والحديث.
وسأضرب لكم مثالاً على ذلك: كثير من الأطباء النفسيين وخاصة ممن ليس عندهم ورع ولا تقوى -أستثني الأخيار وهم بحمد الله كثير- لا يعترفون بتأثير القرآن، ويقولون: هذه توهيمات نفسية، فسواء قرأت القرآن أم لم تقرأ، فإذا أوهمت المريض بأنك تعالج فربما يبرأ بمجرد توهمه أنه يعالج، ثم نقول لهم لماذا؟ قالوا: ليس عندنا دليل علمي، وهذا غير قابل للقياس المادي، وللاستقراء العلمي الظاهر المادي، ثم النتيجة: أن هذا ليس بعلم، وإنما هو تقاليد أو أعراف أو توهمات أو شعور نفسي، وعلى هذا نجد الكثير من الكتاب والمفكرين ردوا أشياء كثيرة من الإسلام، بدعوى أنها لا يقبلها العلم، فنحن نرد عليهم بهذه القاعدة، فنقول: عدم الدليل المادي لا يدل على عدم صحة الشيء، وإذا كان هذا الأمر غيباً فإنه لا يحتاج إلى دليل مادي.
ونقول لهم أيضاً من وجه آخر: كما أن عقولكم لا تثبت وهي عاجزة عن الإثبات، فكذلك هي لا تنفي، إذاً: أخرجوا العقل إذا كانت عقولكم لا تثبت، وهي كذلك لا تستطيع أن تنفي، لذا فليس عند هؤلاء الذين يخبطون في الغيب وفي الدين قدرة على النفي، كما أنهم يزعمون أن عقولهم لا تثبت، مع أن العقل السليم يوافق الشرع، لكن عقولهم قاصرة، فنقول لهم: عقولكم القاصرة في حين أنها لا تثبت، فكذلك لا تقدر على النفي، وكذلك العلم المادي الحديث، فكما أنه لا يستطيع أن يتناول أمور الغيب لا بالإثبات ولا بالنفي، فنقول: فكذلك العلوم التجريبية العلمية الحديثة، فكما أنها لن تثبت أو لا تستطيع أن تثبت الغيب ولن تستطيع ذلك، فكذلك لا تستطيع أن تنفي، إذاً فأخرجوا العلم والعقل من أن تجعلوه أداة للكفر والإلحاد، ولو كان للعلم لسان لخاصم هؤلاء، ولو كان للعقل لسان لخاصم هؤلاء الذين افتروا عليه وبهتوه وعرضوه لتكذيب كلام الله وكلام رسوله صلى الله