[خطأ الاكتفاء في الإثبات بمجرد نفي التشبيه فيما يثبت]
يقول رحمه الله تعالى:[وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه].
يشير الشيخ هنا إلى طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، أو حتى المنتسبين لأهل السنة الذين يثبتون -بزعمهم- كل صفة ترد مع نفي التشبيه، حتى بما لا يليق، ولذلك تكلموا في الأعضاء والأفعال غير اللائقة بحق الله، فقالوا: نثبتها، مع أنها لم ترد في الكتاب والسنة، بل إن العقول السليمة تنفر منها، لكن قالوا: نثبتها من غير تشبيه، وصاروا يثبتون كل شيء من غير تشبيه، ويظنون أن كلمة (من غير تشبيه) تنفي النقص عن الله، وهذا غير مسلّم لهم، فالفريقان كل منهما نقول له: مجرد نفي التشبيه لا يجوز، سواء من الجهمية والمعطّلة الذين أثبتوا بعض الأسماء والصفات، وقالوا: من غير تشبيه، وزعموا بذلك أنهم يريدون نفي حقيقة الصفة، أو يدخلون تحت هذا نفي حقيقة الصفة، أو الذين بالغوا في الإثبات، من المشبّهة ومن بعض جهلة أهل السنة، والذين أثبتوا ما لا يليق بحق الله عز وجل في الاستواء والأعضاء وغيرها، يعني: أنهم ذكروا لوازم الاستواء، وقالوا: نُثبت ذلك من غير تشبيه، والشيخ يقول لهم: إن هذا خطأ، بل نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تشبيه، إذ لا مانع من ذلك، لكن أيضاً هذا الإثبات إذا أخرجناه عن نصوص الكتاب والسنة فلا نُثبت إلا ما يقتضي الكمال، ونقول: صحيح أن من الكمالات ما نعبّر عنه بألسنتنا، ولم يرد في الكتاب والسنة، لكنه كمال لا غبار عليه، فهذا يُثبت لله عز وجل.
أما تفصيلات الأسماء والصفات والأفعال فلا تُثبت على وجه يشعر بالنقص لله عز وجل، إلا ما ثبت في الكتاب والسنة، ولذلك الشيخ ضرب أمثلة: بالبكاء والحزن والجوع والعطش، وبعضهم حينما ذكر حديث:(جعت يا عبدي فلم تطعمني) فتعالى الله عن أن يثبت ذلك على هذا النحو، مع أن مثل هذا السياق جاء صراحة من غير تأويل، وذلك تعبيراً عن حاجة عباده الذين يحتاجون إلى إطعام، وهذا واضح من السياق، ومثله: حديث الهرولة، فالصحيح والراجح أنه لا يُقال: هرولة من غير تشبيه، فحديث الهرولة مرتبط بأفعال العباد، ولذلك تفسيره ليس غيبياً، فلا يجوز أن يقول قائل: نثبت الهرولة من غير تشبيه، ولا يقال: الله أعلم بمراده، بل نثبت اللازم الظاهر من النص، ولا يعد هذا من التأويل؛ لأن التأويل يتعلق بالغيب البحت، أما أمر مربوط بعالم الشهادة، أو مربوط بمجازاة العباد ربطاً مباشراً من غير تأويل ولا مجاز ولا استعارة ولا نحو ذلك، فهذا تفسيره يعتبر حقيقياً للنص، فهو تعبير عن مجازاة العبد؛ لأنا نعلم أن الإنسان لا يعبد الله بالمشي ليجازى بالهرولة، وليس المشي في حد ذاته عبادة، وإنما من أتاني ماشياً، أي: سائراً على ما شرع الله من العبادات والواجبات والفرائض فإن الله يجازيه بأعظم مما فعل، فعُبِّر عن هذا بالمشي، وعُبِّر عن تلك بالهرولة، وهذا نص فريد من نوعه، ومثله: حديث الملل عند بعض أهل العلم، وكذلك نصوص أخرى جاءت بسياق عالم الشهادة، وجاءت في سياق المجازاة، وليست غيبية خالصة.
أما بقية النصوص الأخرى فتُعلّق بأفعال الله عز وجل وصفاته؛ لأنها غيبية خالصة، ويقال فيها: نثبت ما أثبته الله لنفسه من غير تمثيل، ونقول: على ما يليق بجلال الله عز وجل، مع وجوب معرفتنا بأنها حقيقة؛ لأن الله عز وجل لم يتكلم إلا بالحق، ولا يُخبر إلا بالحق.
ثم ذكر أيضاً الضحك والفرح والحزن في أشياء ثبتت فيها النصوص، ولا يقال: الجوع مثل الضحك، أو العطش مثل الضحك، أو البكاء مثل الضحك، فالضحك أمر غيبي بحت، ويُثبت على ما يليق بجلال الله عز وجل، لكن ما لم يرد لا بد أن يخضع للقاعدة الأخرى.