أهل السنة يقولون: إن الجمع بين الضدّين مستحيل لذاته، ثم قال: مثل خلق مثله، وتحريك وسكون الشيء في وقت واحد، ويقول من يخالفهم: يلزمكم على هذه القاعدة أن تنفوا علو الله على خلقه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون فوقه شيء من خلقه ولا محيط به شيء من مخلوقاته؛ لأن هذا جمع بين الضدّين، فهل هذا الإلزام صحيح؟ وكيف الرد عليه؟
الجواب
إن مثل هذه الأمور لا ينبغي الخوض فيها؛ لأنها محارات ومتاهات، ولأن هذه المصطلحات مما يكثر فيها الغلط والوهم، ويكثر عليها الاختلاف، نعم قد تكون العبارة في بعض الأمور صحيحة من حيث إنها من بدهيات العقل، لكن لوازمها وتطبيق هذه القواعد على أمور الغيب هو الذي يكون زلّة، ويدخل في محارات وأوهام، فالجمع بين الضدين لا شك أنه مستحيل، لكن كثيراً من الفلاسفة والمتكلمين ومن دونهم قد يدخلون في الأضداد ما ليس منها، وقد يفرّعون عن هذه القواعد ما لا يدخل فيها، وقد يضعون مقدمات بعضها غير صحيح، فتكون نتائجها غير صحيحة، وقد يضعون مقدمات صحيحة، لكن نتائجها ليست مطابقة لأصل مقدماتهم، وكونهم جعلوا الاستواء والنزول يدخل في المتضادات فهذا توهم منهم؛ لأننا نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه، وينزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله، كما ورد ذلك في النصوص الشرعية، ورد على وجوه كثيرة في الزمان وفي الأحوال، وهذا النزول ثابت قطعاً بقطعيات النصوص، ويلزم إثباته، لكن اللوازم التي قالوا بها في النزول لوازم وهمية، فأهل السنة لا يزيدون عن إثبات ما جاء في النصوص القطعية من أن الله عز وجل مستو على العرش، وأنه سبحانه ينزل نزولاً كما يليق به تبارك وتعالى، وقد وردت في ذلك النصوص القطعية.
وعليه فاللوازم هذه غير لازمة، فلا يعني أنه يلزم من النزول إخلاء العرش؛ لأن ذلك لا يمكن أن يكون داخلاً في الأضداد، وهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أنه لا يمكن التحكم في تصوره، فالله عز وجل ينزل نزولاً يليق بجلاله، فلا يجوز لنا أن نتعدى ذلك، وما ورد عن بعض السلف، أو ما أُثر عن بعض السلف من ذكر بعض اللوازم، كمسألة الإخلاء وعدم الإخلاء، فكلها اجتهادات ليست بقطعية، ولا تلزم جمهور السلف، إذ إنها اجتهادات من آحاد السلف قد يقول بها من باب رد باطل على وجه آخر، فيبالغ أو يقول بما يتوهم ويتصور، وليست عقيدته ملزمة للسلف الصالح، وإن كان من أفراد السلف ومن علماء الأمة؛ لأنه قد يجتهد فيخطئ، فلا يكون اجتهاده موافقاً للقاعدة الشرعية، ولذا فأهل السنة والجماعة لا يلتزمون بهذه اللوازم، أعني: ضرورة القول بإخلاء العرش إذا حصل النزول؛ لأن هذا أمر غيبي خالص، وحتى لو كان في أمر المخلوق لكان من الغيب الذي نتورع أن نخوض فيه، فكيف وهو في حق الله عز وجل الذي ليس كمثله شيء؟! إذاً: كل هذه التصورات والاعتراضات أوهام على أوهام، فمقدماتها أوهام، ونتائجها أوهام، وما علينا إلا أن نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نثبته في حق الله عز وجل أمور لا يحيلها العقل، واللوازم التي ألزموا بها باطلة، فإن كانت اللوازم تستلزم النقص فهي باطلة، وإن كانت لا تستلزم النقص فقد ترد، فإن جاء ما يدل على هذه اللوازم أثبتناه، مثل: أن نقول: من لوازم قوله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة:٦٤]: أن الله كريم، وأنه سبحانه غني، وأنه قادر، وأنه هو الرزاق، فهذه لوازم نلتزمها، لأنها حق وكمال، لكن اللوازم الأخرى من التشبيه والتجسيم والإخلاء وغير ذلك مما قالوه لوازم باطلة، ولا يستطيعون أن يحاجونا بها، حتى ولو قلنا بقاعدة الجمع بين الضدين؛ لأن استواء الله عز وجل على عرشه ونزوله كما يليق بجلاله ليس من باب الأضداد على أي وجه من الوجوه، إنما هم توهموا أوهاماً فألزمونا بأوهامهم، وأوهامهم لا تلزمنا قطعاً.