للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مخالفة القدرية لضرورة الحس والذوق والعقل والقياس]

قال رحمه الله تعالى: [فهم مخالفون أيضاً لضرورة الحس والذوق، وضرورة العقل والقياس، فإن أحدهم لابد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء، فيميّز بين ما يأكل ويشرب، وما لا يأكل ولا يشرب، وبين ما يؤذيه من الحر والبرد، وما ليس كذلك، وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية.

ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائماً فقد افترى، وخالف ضرورة الحس].

يقصد الشيخ بهذا طوائف قد لا تكون ظاهرة عند عموم الناس، لكن مذهب هذه الطوائف قد أثّر في عقائد كثير من أهل الأهواء والبدع والافتراء لا سيما الصوفية.

وهذه الطوائف كانت موجودة قبل الإسلام في بعض عُبّاد الأمم، خاصة الأمم الشرقية والأمم الغربية، كما يوجد عند اليونان والرومان فلاسفة يتعبّدون بالفلسفة وبمناهج فلسفية، ويزعمون أن الإنسان بالتعبد والتحنّث يتّحد بالله عز وجل، أو يكون له حلول مع الله، أو أنه إذا ارتقى إلى القمة في التعبد لم يعد بحاجة إلى أن يأتمر بالأمر، ولا أن ينتهي عن النهي.

كما لم يعد بحاجة إلى أن يلتزم بالشرع؛ لأنهم يقولون: الشرع إنما جاء لترويض العوام، أما الخواص فقد ارتقوا إلى درجة ليسوا بحاجة معها إلى أن يلتزموا بالشرع، ومن هنا زعموا أنهم فوق الأنبياء، وأنهم بالتعبد لم يعد لهم حاجة ولا إحساس بفعل المأمورات وترك المنهيات، وهذا المذهب انتقل إلى المسلمين بعدما شاعت الطرق، وقبل أن توجد الطرق لم يكن لهذا المذهب وجود فعلي، رغم وجود كلام في القرن الثاني والثالث، إلا أن هذه كنزعة فعلية موجودة ما كانت توجد إلا على شكل بذور ليست كاملة، يعني: أن بذورها في القرن الثاني والثالث كانت ظاهرة عند بعض العباد، مثل مقولة: لا أعبدك رجاء جنتك ولا خوف نارك، وإنما أعبدك محبة لك ونحو ذلك من المقولات الباطلة والفاسدة.

وهذه النزعة فعلاً راجعة إلى مسألة إلغاء الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والعمل بشرع الله، لكنها لم تكن إلى حد إلغاء الشرع، فقد كان هؤلاء يدعون أنهم يتورعون، وأنهم يعملون بأركان الدين وواجباته، وإن قعدوا عن أمور وواجبات أخرى أيضاً، لكنهم لم يجرءوا على إلغاء الشرع في سلوكياتهم.

فبعد القرن الثالث لما شاعت الباطنية، وشاعت الطرق، دخلت هذه المذاهب عبر الطرق، فوجد من غلاة الطرقية والصوفية من يعتقد هذا المذهب، ويستغني بزعمه عن الشرع؛ لأنه وصل إلى درجة الفناء، أي: أنه يفنى بالرب من كثرة التعبد والتحنث والتفكر في الله، فيندمج ويحل في الله على ما يعتقدون من الوثنية المعروفة عندهم، وأنه بهذا الحلول لم يعد بحاجة إلى أن يأتمر بأمر ولا ينتهي عن نهي، وهذه النزعة ما تزال موجودة، لكنها قليلة، ولا تزال توجد عند بعض الغلاة من هذا الصنف.

والحقيقة الكونية تتلخص في أمور الربوبية، وهي: اعتقاد أن هذا العابد أصبح ذرة من هذا الكيان، والكيان هو الله، يعني: أنهم يقولون بوحدة الوجود والاتحاد والحلول، وهذه كلها ترجع إلى فلسفة الحقيقة الكونية.

قال رحمه الله تعالى: [ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائمًا فقد افترى، وخالف ضرورة الحس، ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض، كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور، فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع، فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه، بل يرى في منامه ما يسوءه تارة وما يسره أخرى، فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها لضعف تمييزه لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقًا.

ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقًا، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدرًا وشرعًا، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز والعقل والمعرفة.

وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول: أريد ألا أريد، أو إن العارف لا حظ له، وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه.

ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية، وأنه لا يحس باللذة والألم، والنافع والضار، فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل، ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل].

في الحقيقة الشيخ في مثل هذه المقامات كثيراً ما يميل إلى التفصيل الذي يدخل المعاني الصحيحة المحتملة في بعض العبارات؛ لأنه وجد من بعض المنتسبين للسلف من اغتر بهذه المصطلحات، فاستعمل فيها المعاني الشرعية ظناً منه أنها تتضمن المعاني الشرعية كما فعل ابن القيم في كتابه: (مدارج السالكين)، فقد حاول أن يعطي المصطلحات البدعية وجهاً من المعاني الشرعية لتكون معاني على المشروع لا على المبتدع، وكذلك الشيخ هنا قد تكلف ليقول: إن هناك بعض الصالحين من قد يستعمل الفناء بمعنى العبادة التي هي التسليم والتذلل لله عز وجل، ف

<<  <  ج: ص:  >  >>