قال رحمه الله:[وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة المتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان].
قبل أن يفصل الشيخ في قولهم أحب أن أشير إلى ما سبق تقريره في أكثر من درس: نظرة الفلاسفة والأمم الضالة لله عز وجل، إذ إنها نظرة قاصرة، فالفلاسفة ومن تفرع منهم عقيدتهم في الله باطلة، وجميع الفرق التي ضلت، سواء من اليهود أو النصارى أو في هذه الأمة -في باب أسماء الله وصفاته- كلها إنما تعتمد على أوهام الفلاسفة، أو على الشبهات العقلية التي هي من جنس شبهات الفلاسفة، وقد ذكر الشيخ نماذج من الفلاسفة والأمم الضالة، كالصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية وغيرهم، ونظرتهم لله عز وجل نظرة تجريدية سلبية، أعني: أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً ذاتياً، ولذلك توهموا بأنه لا يقبل الأسماء والصفات، وهم في هذا يختلفون اختلافاً كبيراً في تصورهم عن الله، وفي توهمهم عن الله، وهم الذين قال الله فيهم:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}[الذاريات:١٠ - ١٢]؛ لأنهم لما ضلوا في معرفة الله عز وجل ضلوا حتى عن يوم القيامة فلم يدركوه، فهذه الأمم وهذه المناهج الفلسفية تقوم على اعتقاد أنه ليس لله وجود حقيقي يقبل الوصف ويقبل الأسماء، ولا يقبل أن يكون له أفعال، هذا التصور التجريدي لهم فيه مناح كثيرة، ولذلك كثر اعتقادهم في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
ومنهم من يرى أن وجود الله عز وجل مجرد وجود عقلي، أي: أن هناك عقلاً مدبراً لهذا الكون، ومنهم من اعتقد أن وجود الله وجود روح فقط، أي: عبارة عن كيان معنوي يحرك هذا الكون كما تحرك الروح الجسد، وبعضهم يتوهم لله أشياء وتصورات، لذا كان أغلب تصورات الفلاسفة والباطنية والجهمية تدور حول هذا، أي: أن الله عز وجل مجرد قوة، أو مجرد عقل فعال، أو عقل مدبر، أو أنه روح، أو نحو ذلك من هذه الأوصاف التي إذا تأملناها فإنها تؤدي إلى عدم اعتقاد أسماء حقيقية وأوصاف حقيقية لله عز وجل، وإن قال بعضهم بالأسماء أو ببعض الأسماء وببعض الأوصاف، فمن باب أنه يوصف بها الأمر الذي يتصور في الأذهان صار تصورهم لله تصوراً لا يعدو أن يكون في الأذهان، وهذا معنى كلام الشيخ: وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان.
مع أننا لا نقول: في الأعيان، ولا في غير الأعيان، نحن نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن حتى نعرف سبب ضلال هؤلاء، إذ إن ضلالهم ناشئ عن أنهم لا يعتقدون لله وجوداً حقيقياً، ولا يعتقدون لله وجوداً منفصلاً عن المخلوقات، ومن هنا لا يتصف عندهم بالعلو، ولا يتصف بالفوقية، ولا يتصف بالاستواء، ولا يتصف بكثير من الصفات؛ لأنها تؤدي إلى وجود حقيقي، بل إن بعضهم قد نفى الأسماء؛ لأنه إذا سمي فلابد أن يكون له مسمى، والمسمى لابد أن يكون له وجود حقيقي، وهم لا يعتقدون الوجود الحقيقي، وكذلك الذين نفوا الصفات قالوا: الصفات لابد أن تدل على موصوف، والموصوف لابد أن يكون له ذات، والله عز وجل منزه من أن يكون له وجود ذاتي، ومعلوم أن هذه اللوازم لا نلتزمها، لكن نحن نلتزم المعاني الحقة، بمعنى: أننا نقول: ماذا تقصدون بالذات؟ إن قصدتم بالذات أن لله وجوداً حقيقياً، وأن له الأسماء والصفات، وأنه فعال لما يريد، فالله عز وجل موصوف بذلك، لكن كلمة:(ذات) من الكلمات التي يعبر بها عن الإثبات، وليست من أسماء الله وصفاته، وإنما هي تعبير مثلما نقول: شيء، ومن هنا أيضاً تدركون أن هؤلاء لا يرون أن الله شيء، فالله ليس بشيء عندهم.
ومن هنا نشأت عقائد الباطنية، وعقائد الفلاسفة، وعقائد أصحاب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهذه الثلاثة الأخيرة إلحادية شركية فلسفية تقوم على ما ذكرته لكم من قبل، فالذي يرى أن الله روح يرى أن الروح قد حلت بالمخلوقات، والذي يرى أن الله عقل يرى أن العقل قد اتحد بالمخلوقات، والذي يرى أن الله مجرد الوجود المطلق قال بوحدة الوجود، وعلى أي حال لا نريد الدخول في تفاصيل أقوالهم، وإنما هذا الكلام هو تمهيد لما سيذكره الشيخ عنهم بعد قليل في تفصيلاتهم للنفي، فهم يعتقدون في الله السلوب، فيسلبون عن الله الأسماء والصفات ويقولون: لا كذا ولا كذا ولا كذا ولا كذا مما سيأتي ذكره؛ لئلا يثبتون لله وجوداً حقيقياً، ولذا كان أصعب ما على هذا الصنف أن يتصوروا لله وجوداً حقيقياً؛ لأنه يلزمهم بإثبات الحق إثبات الأسماء والصفات والأفعال له عز وجل.
ولذلك نجد كلاً منهم أنه ينفر مما يتعلق بعقيدته، فالجهمي والفيلسوف لا يطلق الأسماء والصفات إطلاقاً، ولا يطلق نصوصها، والمعتزلي لا يطيق ذكر الصفات، وأهل الكلام من