وقبل أن نشرع في الدرس أحب أن ألخص آخر القاعدة الخامسة؛ لأنه في الحقيقة فيه عسر وفيه تكرار، ففي ما مضى تكلم الشيخ عن مسألة الأسماء والصفات، وما الذي يدخل فيها من المعلوم، وما الذي يكون مما لا يعلم، وهذا خلاصة الأمر، فهو يقول: إنما يتعلق بالمعاني والحقائق في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع أمور الغيب هذه معلومة، وهي حق على ما يليق بالله عز وجل، لكن الوجه الآخر من هذه الحقائق: وهو الكيفية فلا نعلمه، ويعبر عنه باللفظ المشترك، ومع ذلك فالذي يعلم والذي لا يعلم يعبر عنه بتعبير واحد، لكن سياق الكلام هو الذي يحدد المعنى، فالله عز وجل أحياناً ينفي التأويل في أمور الغيب والصفات، والسياق يدل على أن المنفي هو الكيفيات، وأحياناً كما في القراءة الأخرى التي عطف فيها التأويل، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}[آل عمران:٧]، فالمقصود فيما يعلم الحقائق والمعاني العامة الثابتة في أمور الغيب، في أسماء الله وصفاته وأفعاله، ثم بعد ذلك قال رحمه الله:(ومن لم يعرف هذا)، أي: مسألة مفهوم المتشابه وتأويل المتشابه، فيعرفه على جهة التفصيل فيه، كثر اضطرابه، وضرب لهذا بمثل من هذه الطوائف -وهو رحمه الله سيذكر عدة طوائف- الذين يقولون: إن التأويل باطل مطلقاً، وهؤلاء هم المفوضة الذين يقولون: يجب إجراء اللفظ على ظاهره، وهذه مشكلة؛ لأنهم يبطلون التأويل وإن كان بمعنى الحقيقة، والتفسير الذي لابد منه، والأمر الذي يئول إليه الشيء، وهو الحقائق المعلومة، أو حتى غير المعلومة، فيبطلون التأويل ويدّعون أن هذا هو وجه الحق، أعني: التفويض، وهذا خطأ، بينما نحن نقول بمنع التأويل المبتدأ، لكن لا نقول: يمنع التأويل مطلقاً، فإذا كان التأويل بمعنى التفسير والبيان وإن سمي تأويلاً تجوزاً فلا شيء فيه، وإن قصد بالتأويل التحريف، أي: صرف المعاني عن حقائقها، أو إلغاء الحقائق، أو التعدد فيها، فهذا هو الممنوع، مع أنهم يحتجون بقوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران:٧]، فيحتجون بهذه على إبطال التأويل، ويقصدون بذلك: إبطال الحقيقة والمفهوم الذي يتعلق بأمر الغيب، وهذا خطأ وتناقض منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، والآية ما نفت التأويل، بل إنها أضافت التأويل إلى الشيء، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}[آل عمران:٧]، ولو لم يكن له تأويل ما قال:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران:٧]، وكان على الأقل أن يقولوا: له تأويل لا يعلمه إلا الله، أو أن هناك نوعاً من التأويل يعلمه الراسخون في العلم، حتى تسلم ذممهم، لكن نفوا التأويل المطلق، وهؤلاء يسمونهم: المفوضة.