للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمثلة على النفي المتضمن إثبات الكمال في حق الله تعالى]

قال رحمه الله: [والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.

فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح، كقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] إلى قوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:٢٥٥].

فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم.

وكذلك قوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:٢٥٥] أي: لا يكرثه ولا يثقله، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها، بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته.

وكذلك قوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:٣] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض.

وكذلك قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨]، فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.

وكذلك قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣]، إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية; لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح; إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أنه لا يحاط به وإن علم، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية].

لذلك جاءت الآية في منتهى البلاغة، ولا شك أنه لم ينف الرؤية فقال: لا تراه الأبصار، بل قال: {لا تُدْرِكُهُ} [الأنعام:١٠٣]، وهذا اللفظ يتضمن ضرورة أن هناك من الأبصار من ستراه، وهي أبصار المؤمنين في الجنة يوم القيامة، فالله عز وجل ينعم عليهم بأن يمكنهم من التنعم برؤيته، لكن لا يحيطون به سبحانه.

ولذلك لما تكلم بعض المعتزلة الذين عندهم فقه للغة في هذه الآية حاروا وما استطاعوا أن يتخلصوا من دلالتها، مثل: الزمخشري رحمه الله تعالى، فقد أتى بالآيات التي تثبت الرؤية، ومنها قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣]، فأخذ يلف ويدور بطريقة عجيبة؛ لأنه لم يستطع أن يتخلص من فقهه للغة؛ لأنه يعلم أن معنى قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] أي: أنه لا يمكن نفي الإدراك إلا بعد ثبوت الرؤية، وإلا فلماذا ينفي الإدراك، والإدراك هو الإحاطة؟ والله عز وجل أعظم من أن تحيط به الأبصار، بمعنى: تدركه، لكنها تراه، وهذا التضمن ضروري في معنى اللغة ومقتضى العقل السليم والفطرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>