قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لما سُئل مالك وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥]؟ قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة].
إن مثل هذا الكلام واضح، ويُعتبر قاعدة ذهبية سار عليها السلف في منهجهم إلى يومنا هذا، إذ إن كل ما ثبت لله عز وجل من الصفات على ما يليق بجلاله، كالاستواء، والنزول، والمجيء، واليد، والوجه، كله يُثبت وهو معلوم، أي: أن حقيقته ومعناه معلوم، من غير أن نعلم الكيفيات؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وأما توهم المتوهمين الذين يقولون: لا نفهم هذا إلا بكذا، فيفرضون تكييفهم وخيالاتهم ويجعلونها هي معنى النص، فهو من عبث الشيطان بهم، ولذلك أعجبتني كلمة نُقلت عن أحد طلاب العلم الذين عرضوا مذهب السلف ومذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في المستقلة، وأظنه عائض الدوسري، وأنا لم أسمع ولم أر ذلك، ولكن تواتر عندي، فحين سأله أحد المشاغبين يريد أن يصور شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه إنسان يسيء إلى الله عز وجل، وأنه يُثبت لله ما لا يثبُت، فيُثبت لله الهرولة، وأظنه قال له: هات الدليل، فجاء له بحديث الهرولة، فقال له: إن مشكلتك هي مع النبي صلى الله عليه وسلم وليست مع ابن تيمية، وأنت خصم للنبي صلى الله عليه وسلم ولست خصماً لـ ابن تيمية، ولذلك الذين يأخذون على السلف إثباتهم للصفات، ويزعمون أنهم خصوم لأهل الحق، لم يعرفوا أن السلف ما جاءوا بشيء من عندهم، وخصومة أهل الأهواء وأهل البدع في جانب الصفات وغيره، ليست خصومة للسلف بأعيانهم، وإنما هي خصومة للحق، فخصمهم هو ربهم عز وجل، وخصمهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فالله هو الذي ذكر عن نفسه هذه الصفات وهذه الأفعال، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها له، ونحن نُثبت ما ثبت بالقرآن والسنة، والسلف يثبتون ما ثبت، فليس هذا قولنا، ولذلك من علامات الخذلان أن أهل الأهواء دائماً إذا أردوا أن يردوا على السلف ردوا عليهم بإيراد ألفاظ الكتاب والسنة على أنها قول السلف، فتأتي بآية وتقول: هذا قول السلف وتعيبهم فيه! وتأتي بحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: هذا قول أهل السنة المشبّهة والمجسّمة! فهذا من علامات الخذلان، وأيضاً من علامات ظهور الحق عند السلف، فالسلف ما قالوا بشيء من عند أنفسهم، وما أثبتوا لله ما لم يثبت لله، وأيضاً يحترزون في الإثبات بضرورة نفي التشبيه والمماثلة، ويثبتون لله جل وعلا الكمال كما يليق بجلاله، فما أثبتوا من عند أنفسهم شيئاً، وما قاله بعض السلف باجتهاد يزيد عن ألفاظ الشرع رده بقية السلف، وذلك من باب زلّة عالم أو اجتهاد خاطئ، لكن الكلام عن المنهج بالعموم.
إذاً: قول الإمام مالك: الاستواء معلوم، أي: معلوم ثبوته وحقيقته، ومعلوم بالكتاب والسنة، ومعلوم بالنص القاطع، ومعلوم معناه اللائق لله عز وجل من غير الكيفية؛ لأن التطلع والكلام في ذلك لا يجوز، ثم لماذا تجعلون الكيف وسيلة للتأويل مع أن الكيف غير وارد؟! في الحقيقة جواب الإمام مالك هو إلهام ألهمه الله إيّاه، بل وصار قاعدة ذهبية لا تتخلّف، وما من عاقل يُدرك هذه القاعدة إلا ويسلّم بأنها مقتضى قواعد الحق، وكذلك نقول في بقية الصفات، فنقول مثلاً في صفة النزول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه ثبت، وكذلك الرؤية: الرؤية معلومة، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنها بدعة، وهكذا خذ كل ما ثبت لله عز وجل في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فخذه على هذه القاعدة، وليس فقط في صفة الاستواء، بل في جميع ما جادل فيه المجادلون، وعطّل فيه المعطّلون، وألحد فيه الملحدون، وأوّل فيه المؤولون، فكله يقال فيه بهذه القاعدة.
وهذه القاعدة ملزمة لا يمكن أن يفر منها منصف ولا عاقل، بل لا يفر منها إلا صاحب هوى.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا الإيمان.
فبيّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهول.
ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) وهذا في صحيح مسلم وغيره، وقال في الحديث الآخر:(اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) وهذا الحديث في المسند وصحيح أبي حاتم، وقد أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عن