للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٢٩ - الحسد]

لغة: يقال حسده، يحسدُه، وحسَّده: إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضله، أو يسلبهما هو،: والحسود: من طبعه الحسد ذكرا كان أم أنثى. والجمع حُسَّد، وحُسَّاد، وحَسَدَة، والمحسدة: ما يحسد عليه الإنسان من مال أوجاه، ونحوهما، كما فى الوسيط (١).

الحسد ظاهرة نفسية لا ينكرها أحد، فقد وردت كلمة حسد فى الآداب الإنسانية، كما جاء الحديث عن "الحسد" فى الكتب المقدسة، أما تأثير الحاسد فى المحسود بواسطة العين فقد اختلف فيه، إذ من المعتقدات الشائعة بين جميع الشعوب أن من الناس (الحاسد) من يملك قوى يمكنها إلحاق الضرر بالآخرين (المحسودين) سواء كان هؤلاء الآخرون: أناسا، أو حيوانات أو نباتات أو أى شىء، حتى ولو كان جمادا -بمجرد النظر إليه أو عن طريق إرسال شعاع العين إليه- أى أن الضرر ينتقل من عين الرائى -وهو الحاسد- إلى المرئى -وهو المحسود- بمجرد نظر صاحب العين الشريرة إليه أو حديثه عنه، سواء كان مدحا، أو إعجابا، أو كان مجرد وصفا له أو تقريرا لهيئته وشكله.

وقد تحدثت الكتب السماوية عن إلحاق ضرر الحاسد للمحسود بواسطة العين فقد ورد فى إنجيل متى (٢٠:١٧): أو ما يحل لى أن أفعل ما أريد، أن عينك شريرة لأنى صالح ".

أما فى الفكر الإسلامى، فقد علل الجاحظ الإصابة بالعين: بأن لكل حادث سببا، وما دامت الإصابة لا سبب لها سوى رؤية العين، فينبغى التصديق: بأنه قد انفصل شىء من عين العائن فأصاب المعيون، ويعتبر ابن القيم من أشد المؤمنين بالعين حيث جمع الأحاديث التى تتعلق بهذا الموضوع سواء كانت تخبر عن الإصابة بالعين، أو توصى بالرقى لدرء الحسد، أو تصف طريقة علاج المحسود، ثم يعقب على ذلك بالهجوم على من ينكر الإصابة بالعين، مستشهدا بآراء من سبقوه، فيقول: "وعقلاء الأمم -وعلى اختلاف مللهم ونحلهم- لا تدفع أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا فى سببه ووجهة تأثير العين، فقالت طائفة: أن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعثت من عينه قوة سمية تتصل بالعين ليتضرر ... الخ" ومما يؤخذ من كلام ابن القيم: إن الحسد ليس حالة نفسية تصيب المحسود فقط، بل لعين العائن آثار ضارة تصيب المعيون، وقد تصل الإصابة إلى حد إدخال الرجل القبر والجمل القدر، أى أن العائن قادر على إماتة الأحياء، وإهلاك الزرع والضرع .. حتى ولو كان أعمى.

وذكر الحارث المحاسبى أنواع الحسد، ومجالاته، ودوافعه، وأضراره، وبين أن المحسود لا يلحقه الضرر من عين العائن، ولا يصيبه شىء من الحاسد إلا إذا تجاوز الحسد القلب إلى الجوارح، فسلك الحاسد مسالك تؤدى إلى إلحاق الضرر بالمحسود، كتدبير المؤامرات لافساد العلاقة بينه وبين مصادر نعمته، أو اتخاذ تدابير تؤدى إلى زوال ما يتمتع به المحسود من النعم، أو الاعتداء على النفس والأرواح بما يصيبها أو يهلكها، ولم يسم هذا حسدا، بل يرى أنه عمل دفع الحسد إليه.

أما الأمام أبو حامد الغزالى فقد تناول حديثه عن الحسد تسع نقاط هى: ذم الحسد، حقيقته، أقسامه، حكمه، مراتبه، أسبابه، سبب كثرته بين الأمثال والأقران، دواؤه، القدر الواجب في نفيه.

فهو يرى أن الحسد ليس مرضا عضويا، بل هو من أمراض القلوب، ولا يداوى إلا بإلعلم، وأنه لا ضربى فيه على المحسود فى الدنيا والآخرة إذ يقول: "وأما أنه لا ضرر فيه على المحسود فى دينه ودنياه فواضح، لأن النعمة لا ترول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة، فلابد أن يدوم إلى أجل معلوم قدره الله سبحانه وتعالى، فلا حيلة في دفعه، بل كل شىء عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب، فإذا لم تزل ألنعمة بالحسد، لم يكن على المحسود ضرر فى الدنيا، ولا يكون عليه إثم فى الآخرة. ولعلك تقول: ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدى وهذا غاية الجهل، فلو كانته النعمة تزول بالحسد لم يبق الله عليك نعمة ولا على أحد من خلقه، ولا نعمة الإيمان أيضا لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان، قال تعالى {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسم .. } البقرة:١٠٩.

وقد نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تخبرعن إمكانية وجود الحسد ووقوع ضرر من عين الحاسد بالمحسود، وتوصى بتلاوة نصوص محددة للتعاويذ والرقى للحماية من عين الحاسد، كما شرحت، أحاديث أخرى العلاج من ضرر الحسد .. أما فى القرآن الكريم فقد وردت كلمة "الحسد" فى أربع آيات: البقرة:١٠٩، النساء:٥٤، الفتح:١٥، الفلق:٥) كما وردت ألفاظ تتضمن معنى الحسد فى آيات أخرى: (البقرة:٩٠، ٢١٣، الحسد فى آيات أخرى: (البقرة:٩٠، ٢١٣،آل عمران:١٩، الشورى:١٤، الجاثية ١٧).

وقد أول المنكرون لتأثير عين الحاسد فى المحسود كل ما ورد فى القرآن الكريم وخاصة فى قوله تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} الفلق:٥، فقالوا فى تفسير هذه الآية "وتقييد الاستعاذة من شره بوقت: "إذا حسد"؟ لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود، حين يجيش الحسد فى نفسه، فتتحرك له الحيل والنوايا، لالحاق الضرر به" أى أن الضرر لا يأتى من العين، بل من عمل الحاسد، حين يدفعه حسده إلى إلحاق الضرر بالمحسود، أما ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قبلوا ما أخبر به عن وقوع الحسد لأن وجوده فى النفس الإنسانية مسلم به إلا أنه لا يتعدى كونه ظاهرة نفسية لدى الحاسد، أما الأحاديث التى تتحدث عن الأضرار التى تصيب المحسود عن طريق غير الحاسد فقد ردوها لضعف سندها أو لتناقض معناها مع مبادىء الإسلام وتعاليمه، مثل الحديث المشهور: (إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر)، إذ لم يرد هذا الحديث فى أى من كتب الحديث التسعة، وإنما ذكره أبو نعيم الأصفهانى فى الحلية، قال الصابونى: "بلغنى أنه قيل له -أى لراويه شعيب بن أيوب الأنصارى-: ألا ينبغى أن تمسك عن هذه الرواية، ففعل).

أ. د/محمد شامة


الهامش:
١ - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، الطبعة الثالثة "مادة: حسد"،١/ ١٧٨.

مراجع الاستزادة:
١ - الحسد فى القرآن الكريم، محمد شامة، القاهرة ١٩٩٢م.
٢ - زاد المعاد، لابن القيم، بيروت ١٩٨٥م.
٣ - الرعاية لحقوق الله، الحارث المحاسبى، تحقيق عبد الحليم محمود، القاهرة ١٩٨٤م

<<  <   >  >>