للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[٢٦ - العقيدة]

لغة: تدل مادة (عقد) فى مختلف استعمالاتها على معانى التوكيد والتوثيق والإبرام، سواء كان ذلك فى الجانب الحسى: أو الجوانب المعنوية، ومنها قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} (المائدة ٨٩) أى، أقسمتم به مع النية التامة والقصد الكامل، ومنها قوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح} (البقرة ٢٣٥) ومن هنا جاءت كلمة (عقيدة) لتدل على ما يدين الإنسان به، ويعقد عليه القلب والضمير (١).

واصطلاحا: كلمة (عقيدة) تتسع فى المحيط الإسلامى لتدل على "فعل الاعتقاد" نفسه حينا، ولتدل على " محتوى الاعتقاد وموضوعاته " حينا، ولتدل على (العلم) الذى يتكفل ببيان الأمرين جميعا حينا آخر.

فيما يتعلق "بفعل الاعتقاد" نفسه فإن الاعتقاد الصحيح يجب أن يكون مصحوبا بالجزم والتيقن والإذعان، وأن يتخلص من شوائب "الظن " الذى يعنى التردد بين طرفين، ثم الميل إلى الطرف الراجح منهما، ومن شوائب "الشك " الذى يعنى التردد بين طرفين، دون ميل إلى أحدهما، ومن شوائب "الوهم " الذى يعنى أيضا التردد بين طرفين، ثم الميل إلى الطرف المرجوح منهما (٢).

وحين يتخلص الاعتقاد الصحيح من هذه الشوائب- بما تعنيه من اهتزاز وارتياب. فإنه يكون مقترنا بإذعان العقل، وسكون النفس، وانشراح الصدر، ومن ثم يصير هذا الاعتقاد باعثا لصاحبه على آداء التكاليف العملية كالصلاة والصيام وغيرها فى طواعية ويسر، كما يكون دافعا لصاحبه على الالتزام الخلقى، والسلوك السوى، مصحوبا بمراقبة الله عز وجل فى السر والعلانية، حتى يبلغ ذلك الاعتقاد بصاحبه إلى مرتبة الإحسان التى عبر عنها قوله (صلى الله عليه وسلم) (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (٣).

من أجل ذلك فإن الاعتقاد الصحيح يجب أن يكون مؤسسا على الدليل اليقينى القاطع، سواء كان دليلا إجماليا أو تفصيليا، فالدليل الإجمالى مثلا على وجود الله تعالى، واتصافه بصفات الكمال هو العالم بكل ما فيه من بديع الصنع، ومظاهر الحكمة، ودلائل النظام والاتساق والإحكام، والدليل الإجمالى مثلا على صدق النبى (صلى الله عليه وسلم) فيما بلغه عن ربه سبحانه وتعالى هو ما أيده الله تعالى به من باهر المعجزات، وأعظمها القرآن الكريم نفسه، وما اشتملت عليه رسالته السامية من هداية البشرية، وما نعمت به فى ظلها من الرفاهية والأمن والسعادة.

ولئن كان الاعتقاد الصحيح مؤسسا على الدليل اليقينى القاطع فهو بالضرورة مطابق للحق وللواقع بلا ريب، وعلى هذه الأسس الثلاثة: أعنى الجزم، والتأسيس على الدليل، والمطابقة للواقع: يترسخ الاعتقاد الصحيح فى الإسلام، ويصير فرقانا بين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، وبين الهدى والضلال (٤)، كما يصير مرادفا للعلم المأمور به فى قوله تعالى (فاعلم أنه لا إله إلا الله) (محمد ١٩).

أما محتوى الاعتقاد أو "المعتقدات " فتشمل منظومة من العقائد التى تتعلق بجانب الألوهية (وتسمى الإلهيات)، وتشمل مجموعة من العقائد التى تتعلق بالأنبياء عليهم السلام، وتسمى (النبوات) وتشمل أخيرا طائفة من العقائد التى تتعلق بالأمور الغيبية التى ورد بها السمع (أى الكتاب والسنة الصحيحة) وتسمى (السمعيات).

فى جانب الإلهيات يجب على المسلم الاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن النقائص التى لا تليق بجلاله وألوهيته، فهو سبحانه منزه عن الاعتماد فى وجوده على غيره، ومنزه عن أن يكون لوجوده بداية، أو نهاية، ومنزه عن أن يكون مماثلا للمخلوقات، ومنزه عن التعدد فى ذاته، وفى صفاته، وفى أفعاله، فلا ذات تماثل ذاته العلية، ولا صفات تشابه صفاته المقدسة، ولا أفعال تماثل أفعاله تعالى، ولقد سمى علماء العقائد هذه الصفات التى تدل على التنزيه بالصفات السلبية.

ومن ناحية أخرى يجب على المسلم- فى جانب الإلهيات أيضا: الاعتقاد بأنه سبحانه متصف بالكماليات العليا التى تليق بجلاله وعظمته، مثل القدرة التامة الشاملة، والإرادة

الكاملة التى تعنى أنه غير مقهور، ولا عاجز، والعلم المحيط الذى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وهو سبحانه متصف أيضا بالسمع والبصر والكلام، وغيرها من الصفات التى سماها علماء العقائد: الصفات الثبوتية أو الوجودية ..

وفى جانب النبوات يجب على المسلم الاعتقاد بأن الأنبياء جميعا- عليهم السلام- متصفون بالصدق والعصمة، وتبليغ ما أرسلوا به دون كتمان، ومتصفون أيضا بفطانة الرأى وسداد المسلك، لأنهم قادة البشرية وهداتها إلى الحق والخير والصواب.

وفى جانب السمعيات يجب على المسلم الاعتقاد بكل ما ورد فى القرآن الكريم والسنة الصحيحة من معتقدات: كالملائكة والجن، والروح، والكرسى، والعرش، واللوح، والقلم، وكذلك الإيمان بالقدر، وبعث الموتى من قبورهم، وأحوال الآخرة من الحشر والنشر، والصراط، والميزان، والحوض، والشفاعة، والجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها (٥).

أما "علم العقيدة"، وهو ما يسمى علم التوحيد، أو علم الكلام، أو علم أصول الدين فهو العلم الذى يتكفل ببيان الجانبين السابقين- الاعتقاد والمعتقدات- معتمدا فى ذلك على العقل والنقل جميعا، ولعل هذا الملحظ هو ما حدا بعلماء العقائد إلى الإصرار على أن تكون معرفة أحكام العقل الثلاثة- الوجوب والاستحالة والجواز- من أهم المهمات لمن يتصدى للبحث فى هذا العلم، بل لقد سماها البعض "قاعدة الدين " (٦).

وإذا كان هذا العلم كما يرى بعض علماء العقائد- هو العلم الذى يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه (٧) فإن هاتين الوظيفتين- إقامة الحجج ودفع الشبه- لا يمكن النهوض بهما إلا لمن أحكم أصول الشرع وأصول العقل جميعا، ومن أجل هذا المعنى فقد عرفه بعض علماء العقائد بتعريف مشابه، وهو أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من أدلتها اليقينية" (٨).

أ. د./ محمد عبد الفضيل القوصى


المراجع
١ - المصباح المنير، مادة: عقد، ولسان العرب، لابن منظور ٣/ ٢٨٨.
٢ - السنوسى: شرح الكبرى: ص ٣، وأيضا: شرح العقائد النسفية ١/ ٩ - ١٠.
٣ - البخارى: كتاب الإيمان، ومسلم: كتاب الإيمان.
٤ - قارن شرح المقاصد للتفتازانى ٢/ ١٩٤، وتبصرة الأدلة: لأبى المعين النسفى ١/ ٤٣ والشرقاوى على الهد هدى ص ٤٠.
٥ - شرح النسفية ١/ ٢٢ - ٢٣ حاشية الأمير على الجوهر، ص ٥٤ـ٥٥.
٦ - الإرشاد، الجوينى: ص ١٢ - ١٦، والعقيدة النظامية: ص ٥.
٧ - شرح المواقف: ١/ ٣٤ - ٣٥.
٨ - شرح المقاصد. ١/ ٥.

<<  <   >  >>