للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

[١٨ - الخلوة]

لغة: انفراد الإنسان بنفسه أو بغيره، أو بمعنى: المكان الذى يتم فيه ذلك، ومنه قول أنس بن مالك -رضى الله عنه- جاءت امرأة من الأنصار إلى النبى صلى الله عليه وسلم فخلا بها (رواه البخارى) (١) أى ابتعد منفردا بها بحيث لا يسمع الحاضرون شكواها، لا بحيث يغيب عن أبصارهم.

واصطلاحا: للفظ الخلوة استعمالان:

١ - استعمال فقهى بمعنى انفراد الرجل بالمرأة فى مكان يبعد أن يطلع عليهما فيه أحد.

وخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه حرام، لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما، أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) (رواه البخارى (٢)، ومسلم) (٣) كما روى عن ابن عمر من خطبة لعمر -رضى الله عنهما- (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) (رواه الترمذى فى سننه) (٤).

ولا يلزم الزوجة أن تمكن الزوج من نفسها فى غير خلوة، ولا يجوز له أن يطلب ذلك منها.

والخلوة عند المالكية نوعان:

أ- خلوة الاهتداء، وهى: أن يوجد الزوج معها وحدها فى محل ترخى الستور على نوافذه إن كانت ستور، وغلق الباب الموصل لهما، بحيث لا يصل إليهما أحد.

ب- وخلوة الزيارة، وهى: أن تزوره فى بيته، أو يزورها فى بيتها، أو يزور الاثنان شخصا آخر فى بيته.

وعند الحنفية: الخلوة الصحيحة التي تترتب عليها أحكام الزوجية هى:

أن يجتمعا فى مكان، وليس هناك مانع يمنعهما من الوطء، لاحسا. ولا شرعا. ولا طبعا. ولاختلاف المذاهب فى اعتبارات الخلق وأحوالها وأحوال أطرافها، والربط بينهما وبين الآيات القرآنية من مثل قوله تعالى:

{وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} النساء:٤، وقوله: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين. وأن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} البقرة:٢٣٦،٢٣٧، وقوله: {ياأيها الذين أمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها} الأحزاب:٤٩، لاختلاف المذاهب فى ذلك اختلفت بعض أحكامها فيما يتعلق بإيجاب المهر كله، أو نصفه، أو إسقاطه، وكذلك فى المتعة والعدة والنسب عند حدوث الولد، والاحصان، وحرمة من تحرم بالزواج، إلى غير ذلك من الأحكام.

٢ - استعمال صوفى بمعنى محادثة السر -الذى هو محل المشاهدة- مع الحق بحيث لا يرى غيره، وهذه حقيقتها، أما صورتها فهى ما يتوصل به إلى تحقيق ذلك.

وهذا يرجع إلى منهجهم فى مجاهدة النفس، حيث يرون أن الخلوة أعون للمريد على التركيزفى عبادته حتى يمحو ما فى نفسه من ذميم الصفات، ويحصل على صفو العلاقة بالله سبحانه وتعالى، فمن وجد فى نفسه القوة أن يكون مع الناس بجسمه ومع الحق وحده بروحه وسره، فالخلطة والاجتماع له افضل، وللمشايخ فى المفاضلة بين الخلوة والمخالطة ترجيحات تعود إلى تقدير أحوال المريد، وهم يرجعون فى شأن الخلوة إلى ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث بدء الوحى (٥)، أنه صلى الله عليه وسلم حبب إليه الخلاء، فكان يأتى غار حراء فيتحنث فيه الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة رضى الله عنها فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء.

وقد وضعوا للخلوة شروطا لكى تثمرثمارا صحيتة، فما كان منها وفقا لقواعد الشرع وصدق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثمر تنوير القلب، والزهد فى الدنيا، وحلاوة الذكر، والمعاملة لله بالاخلاص، لذلك يحتاج المريد إلى تعلم ما يلزمه من علوم الشريعة قبل الدخول فى الخلوة.

وما لم يستوف المريد شروطها فإنها توقعه فى فتنة أو بلية، وقد تنتج له صفاء فى النفس يستعان به على اكتساب علوم الرياضة، مما يعتنى به الفلاسفة وامثالهم، وقد يوجد عندهم ما يشبه فى صورته أحوال المتابعين للشرع، فيكون فى حقهم مكرا واستدراجا، ولا يصح للمريد أن يغتر بشىء من ذلك حتى لو مشى على الماء أوطار فى الهواء، لأن من تعلق بخيال، أو قنع بمحال، ولم يحكم أساس خلوته فى الإخلاص فإنه يدخل الخلوة بالزور، ويخرج بالغرور، ويسلبه الله لذة العبادة، ويفتضح فى الدنيا والآخرة.

وكثيرا ما يكتفون فى الخلوة بأربعين يوما يسمونها الأربعينية؛ رجاء أن ينسحب حكم الأربعين على جميع الزمان بحيث تجعل المدوامة فيها على شىء خلقا كالخلق الأصلى الغريزى.

واعتمدوا فى تحديد الأربعينية على حديث رواه مكحول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (٦) (من أخلص لله تعالى العبادة أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) وهو حديث ضعيف الإسناد إلا أن الصوفية يؤيدون معناه بما ورد فى القرآن الكريم عن موسى عليه السلام حيث يقول {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة} الأعراف:١٤٢، ففيها إشارة إلى الاستعداد البدنى والنفسى خلالها بمزيد عبادة وتبتل من أجل استقبال واردات الحق.

ومن أصولهم أن من يدخل الخلوة ينبغى أن يكون خاليا من جميع الأفكار إلا ذكر الله، ومن جميع المرادات إلا مراد ربه، بصرف النظر عما يمكن أن يقع دون نظر إلى شىء سواه، وإلا فتن بهواه.

أ. د/عبد الفتاح عبد الله بركة


الهامش:
١ - صحيح البخارى: كتاب النكاح باب ما يجور أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
٢ - المصدر السابق: كتاب النكاح باب لا يخلون رجل بامراة إلا ذو محرم.
٣ - صحيح مسلم: كتاب النكاح باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
٤ - سنن الترمذى: أبواب الفتن باب فى لزوم الحماعة، وقال عنه هذا حديث حسن صحيح.
٥ - صحيح البخارى: كيف كان بدء الوحى.
٦ - حلية الأولياء لأبى نعيم الأصفهانى.

مراجع الاستزادة:
١ - إحياء علوم الدين للغرالى، ج٢، كتاب آداب العزلة، طبعة محمد على صبيح ١٩٥٧م.
٢ - عوارف المعارف للسهروردى، دار الريان للتراث القاهرة ١٩٨٩م.
٣ - الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيرى، المجلد الرابع دار احياء التراث العربى بيروت ١٩٦٩م.
٤ - اللمع للطوسى: دار الكتب الحديثة القاهرة ١٩٦٠م.
٥ - المحلى لابن حزم، ج١١ مكتبة الجمهورية العربية القاهرة

<<  <   >  >>