للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بناه على رأيه الذي رَجَعَ عنه؛ وذلك لمصلحةِ استقرارِ الأحكام، ولذا لا يسوغُ للقاضي نقضُ حُكْم مَنْ قبله إذا خالفه - فليست هذه المسَألةُ نظيرةً لمسألتِنا؛ فإنَّ مسألتنا في قولِ إمامِ المذهبِ، ولا تعلق فيها بحقِّ أحدٍ، فإذا قالَ الإمامُ شيئًا، ثمَّ عادَ، فقالَ بضدِّه مثلًا، علمنا أنَّه تبيّنَ له ضعفُ قولِه الأول، وقوة القول الثاني، فنسبناه إليه (١).

الوجه الثاني: يَنْقضُ دليلَكم ما لو صرَّحَ إمامُ المذهبِ بالرجوعِ عن قولِه المتقدِّمِ، فكيفَ تجعلونه قولًا له مع قولِه: رجعتُ عنه، واعتقدتُ بطلانَه؟ ! فلا بُدَّ مِن نقضِ الاجتهادِ بالاجتهاد (٢).

الدليل الثاني: تَتَابَعَ الفقهاءُ مِن المذاهب المختلفةِ على حكايةِ أقوالِ أئمتِهم التي عَلِمُوا تقدّمها، ورجوعهم عنها، ولولا صحةُ نسبتِها إليهم لما أبقوها، ولاقتصروا على أقوالِهم اللاحقة (٣)، بلْ قد ثَبَتَ عن بعضِ الفقهاءِ الأخذُ بأقوالِ أئمتِهم المرجوعِ عنها (٤).

مناقشة الدليل الثاني: المفترضُ أنْ لا تُدوَّن الأقوال المرجوع عنها؛ لأنَّه أقرب إلى ضبطِ الشرعِ، وتدوينُ الفقهاءِ لها ليس بدليلٍ على صحةِ نسبتِها إليهم؛ بلْ لتدوينِها فوائدُ متعددةٌ تتحققُ مع عدمِ نسبةِ الأقوالِ المتقدِّمةِ إلى الأئمةِ، ومِنْ تلك الفوائد: الاطلاعُ على مداركِ الأحكامِ، ومعرفةُ اختلافِ الآراء، وأنَّ هذا القولَ كانَ لإمامِ المذهب في وقتٍ مِن الأوقاتِ، فيكون أقربَ للترقي في الاجتهادِ، وهذه مطالبَ مهمّةٌ، لأجلها جُمِعَتْ الأقوال في المذاهبِ (٥).


(١) انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (٤/ ٣٧١ - ٣٧٢)، وروضة الناظر (٣/ ١٠١٤).
(٢) انظر: روضة الناظر (٣/ ١٠١٤)، وشرح مختصر الروضة (٣/ ٦٤٨)، وأصول الفقه لابن مفلح (٤/ ١٥٠٨)، والتحبير (٨/ ٣٩٦٢)، والإنصاف (١/ ١٠).
(٣) انظر: شرح تنقيح الفصول (ص / ٤١٩)، ونهاية الوصول للهندي (٨/ ٣٦٣٦)، وشرح مختصر الروضة (٣/ ٦٢٦)، وفرائد الفوائد للسلمي (ص/ ١٢٩).
(٤) انظر: جامع مسائل الأحكام للبرزلي (١/ ١٠٥).
(٥) انظر: شرح تنقيح الفصول (ص / ٤١٩)، ونهاية الوصول للهندي (٨/ ٣٦٣٦)، وشرح مختصر الروضة (٣/ ٦٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>