للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والغلوُّ في إمامِ المذهب يورثُ المتمذهبَ اعتقادًا بأنَّ كلَّ ما عدا مذهبه وأقوال إمامِه ليس مِنْ الدَّينِ، وأن الحقَّ مقصورٌ على مذهبِه، محصورٌ فيه (١)، وأنَّ ما عند أربابِ المذاهب الأخرى باطلٌ قطعًا (٢).

يقولُ الشيخُ عبدُ الحي اللكنوي عن حالِ كثيرٍ من المتمذهبين المتأخرين: "أقاموا الطامّةَ الكبرى، ونصبوا راياتِ المنازعةَ العظمى، وأخذوا في حصرِ الصحةِ على مذهب إمامِهم، وإنْ خالفَ الأحاديثَ الصحيحةَ الصريحةَ! مِنْ غيرِ أنْ يقومَ دليلٌ على عدمِ الاحتجاجِ به، وحكموا بخطأِ مذهبِ مَنْ خالفهم، وإنْ وافق الدلائلَ القويةَ مع الاحتجاجِ بها" (٣).

السبب الثاني: اعتقادُ عدم خفاء شيءٍ من الأدلة على إمام المذهب.

يظنُّ بعضُ المتمذهبين، ويجزمُ آخرون منهم بأنَّ إمامَهم لم يخفَ عليه شيءٌ مِن الأدلةِ، ولا سيما دليل السنةِ.

وما منْ ريبٍ في أن بعضَ الأئمةِ المجتهدين قد بلغوا شأوًا كبيرًا في معرفةِ سنةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية، ولكنَّ هذا الأمر لا يعني إحاطةَ الواحدِ منهم بالسنةِ النبويةِ (٤).

يقولُ تقيُّ الدّينِ بنُ تيميةَ: "أمَّا إحاطةُ واحدٍ - أي: من العلماء - بجميعِ حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا لا يمكنُ ادّعاؤه قط" (٥).

ويقول ابن البرِّ: "والإحاطةُ بها - أي: بأخبار الآحاد - ممتنعةٌ، وما أعلمُ أحدًا مِنْ أئمةِ الأمصارِ مع بحثهم وجمعِهم إلا وقد فاته شيءٌ من السننِ المرويةِ من طريق الآحاد" (٦).


(١) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (٢٢/ ٢٤٨)، ونقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية للدكتور وهبة الزحيلي (٤/ ١٧٠) ضمن موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر.
(٢) انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ ٩٢)، وعمدة التحقيق لمحمد الباني (ص/ ٨٠).
(٣) إمام الكلام (ص/ ٣٦).
(٤) انظر: تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور عمر الأشقر (ص/ ١٨٠).
(٥) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص/ ٧).
(٦) التمهيد (٢/ ٦٢) مع موسوعة شروح الموطأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>