للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالعالمُ مهما بلغتْ درجتُه في العلمِ والاجتهادِ قد يخفى عليه كثيرٌ مِن الأحاديثِ، وقد سبقت الإشارةُ إلى هذا الأمرِ.

لكن ما بَيّنتُه آنفًا لم يكنْ متقررًا في أذهانِ عددٍ ليس بالقليلِ مِن المتمذهبين، ورأوا أنَّ إمامَهم وأئمةَ مذهبِهم لم يخفَ عليهم شيءٌ مِن الأدلةِ - ودليل السنة منها على وجه الخصوص - فإذا وقفوا على دليلٍ نقلي، قالَ إمامُهم بخلافِ ما دلَّ عليه، وقالَ بمقتضاه مجتهدٌ آخر، جعلوا حجتَهم في تركِ الدليلِ وعدمِ الأخذِ به، والحرصِ على تأويلِه، علمَهم أنَّ إمامَ مذهبِهم لم يترك الدليلَ إلا لضعفِه، أو لمعارضٍ أرجح، فيأخذون في تأويلِه - ويتكلفون في ذلك - أو يقولون بنسخِه؛ ليتركوا العملَ به (١).

ومن الأمثلة لهذا السبب: ما علَّقه أبو عيسى الوزاني على كلامِ العزِّ بنِ عبد السلام حين وَصَفَ بعضَ المتمذهبين بأنَّ أحدَهم يقفُ على ضعفِ مأخذِ إمامِه، ويقلِّده فيه - وقد سَبَقَ نقلُ كلامِ العزِّ في المطلب الثاني: (رد دلالة الآيات والأحاديث الثابتة، والتكلف في ذلك) - فقد قالَ: "أمَّا كونُ المقلِّد لم يجدْ لضعفِ إمامِه مدفعًا - كما قاله عزُّ الدين - فلا يُوْجِب انتفاءَه؛ إذ قد يكون له مدفعٌ، ولا يعلمُه هذا الفقيه المقلِّد، تأمَّله" (٢).

وقد نقلَ الشيخُ صالحٌ المقبلي (ت: ١١٠٨ هـ) عن بعضِ متمذهبي قُطْرِه مِن الزيديةِ أنَّهم صرَّحوا بأنَّ الاعتمادَ على نصوصِ إمامِهم أولى؛ لأنَّه قد بَلَغَ في معرفةِ الكتابِ والسنةِ مبلغًا لا يدركونه، ولا يقاربونه، فما حَكَمَ به، فكأنَّه حُكْمُ صاحبِ الشريعةِ! (٣).

لقد أورثَ إعجابُ المتمذهبين بعلماءِ مذهبهم، وتمجيدُهم لهم أنْ يُنَزّهوهم عن الوقوعِ في الخطأِ، فحصروا أنفسَهم في مذهبِهم (٤).


(١) انظر: أدب الطلب للشوكاني (ص/ ٩١)، وإمام الكلام لعبد الحي اللكنوي (ص/ ٣٦).
(٢) النوازل الجديدة الكبرى (١/ ٣١٧).
(٣) انظر: العَلَم الشامخ (ص/ ١٠٧ - ١٠٨).
(٤) انظر: أليس الصبح بقريب لابن عاشور (ص/ ١٧٩ - ١٨٠)، ومدخل لدراسة الفقه لمحمد المحجوبي (ص/ ٢٤٢)، ومدخل لدراسة الفقه للدكتور حسين حسان (ص/ ١١٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>