للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويشهدُ لهذا السببِ: ما قاله أبو حامدٍ الإسفرايني لبعضِ جلسائِه: "لا تُعلِّقْ كثيرًا ممَّا تسمعُ مني في مجالسِ الجدلِ؛ فإن الكلامَ يجري فيها على خَتْل (١) الخصمِ، ومُغَالطتِه، ودفعِه ومُغالبتِه، فلسنا نتكلّم لوجهِ الله خالصًا! ولو أردنا ذلك، لكان خَطْونا إلى الصمتِ أسرعَ مِنْ تطاولنا في الكلامِ" (٢).

ويقولُ الشيخُ محمدٌ أبو زهرة عن المناظراتِ الفقهيةِ: "وقد أدتْ تلك المُلاحاةُ، وهذه المناقشاتُ التي كانت تُتخذُ أحيانًا للمغالطاتِ إلى أمرين: ... ثانيهما: اشتدادُ التعصبِ المذهبي الذي انتقل إلى مخاصماتٍ، فعداواتٍ، وسَرَى ذلك إلى العامةِ، حتى كادَ يؤدّي إلى التناحرِ ... " (٣).

السبب السادس: الإلفُ والاعتيادُ على مذهبٍ فقهي واحدٍ.

لم يكن التواصلُ بين المذاهبِ الفقهيةِ قائمًا في جميعِ الأقطارِ، فقد عُمرتْ بعضُها بمذهبٍ فقهي واحدٍ، لم يخالطه غيرُه من المذاهب، إلا على وجهٍ لا يكادُ يُذكر.

ومِنْ شأنِ إلفِ المتمذهب للمذهبِه، واعتيادِه عليه، ورُؤيته مَنْ يُعَظِمُه ويُجِلُّه مقيمًا عليه، وتمذهب العلماء والكبراء به، وعدم الاطلاع على غيرِه مِن المذاهبِ (٤): أنْ يجعلَ نفسَ المتمذهبِ غيرَ مُتَقَبِّلةٍ لغيرِ ما تعرفُه مِنْ مذهبِها، دونَ نظرٍ في القولِ ودليلِه، بلْ يتجاوزُ الأمرُ عند بعضِهم إلى الطعنِ ومحاربةِ مَنْ يأتي بغيرِ مذهبِهم (٥).


(١) الخَتْل: الخداع. انظر: الصحاح، مادة: (ختل)، (٤/ ١٦٨٢)، والقاموس المحيط، مادة: (ختل)، (ص/ ١٢٨١).
(٢) نقل كلامَ أبي حامد تاجُ الدين بن السبكي في: طبقات الشافعية الكبرى (٤/ ٦٢). وانظر: تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ ٢٩٨)، والاجتهاد والتقليد للدكتور محمد الدسوقي (ص/٢٢٢).
(٣) تاريخ الجدل (ص/ ٢٩٩). وانظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة (ص/ ٤٦٥).
(٤) انظر: هداية الحيارى لابن القيم (ص/ ٣٩)، والاعتصام للشاطبي (٣/ ١٠٨).
(٥) انظر: التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل لعبد الرحمن المعلمي (٢/ ١٨٨ - ١٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>