ويقولُ ابنُ حمدان:"لمَّا كان مِن اللازمِ الالتزامُ بأهلِ الدينِ وعلماءِ الشريعةِ المبرزين، وأكابرِ الأئمةِ المتبوعين ... وكان الإِمامُ العالمُ السالكُ الناسكُ الكاملُ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - رضي الله عنه - قد تأخّر عنْ أئمةِ المذاهبِ المشهورةِ، ونَظَرَ في مذاهبِهم ومذاهبِ مَنْ قبلهم، وأقاويلهم وسَبَرَها وخَبَرَها وانْتَقَدَها، واختار أرجحَها وأصحَّها، ووَجَدَ مَنْ قبله قد كفاه مؤنة التصويرِ والتأصيلِ والتفصيلِ، فتفرَّغَ للاختيارِ والترجيحِ، والتنقيحِ والتكميلِ ... ثُمَّ لم يُوجدْ بَعْدَه مَنْ بَلَغَ محلَّه في ذلك، كان مذهبُه أولى مِنْ غيرِه بالاتباعِ والتقليدِ، وهذا طريقُ الإِنصافِ والسلامةِ مِن القدحِ في بعضِ الأئمةِ ... "(١).
وقد جاءَ عن بعضِ العلماءِ المحققين كلامٌ رصينٌ في بيانِ حالِ مَنْ يُسْرِفُ في الحديثِ عن تفضيلِ مذهبِه، يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "أمَّا ترجيحُ بعضِ الأئمةِ والمشايخِ على بعضٍ، مثل: مَنْ يرجّحُ إِمامَه الَّذي تفقّه على مذهبِه، أو يُرجّحُ شيخَه الَّذي اقتدى به على غيرِه ... فهذا أكثرُ الناسِ يتكلمون فيه بالظنِّ، وما تهوى الأنفسُ؛ فإِنَّهم لا يعلمون حقيقةَ مراتبِ الأئمةِ والمشايخِ، ولا يقصدون اتباعَ الحقِّ المطلقِ! بلْ كلُّ إِنسانٍ تهوى نفسُه أنْ يرجِّحَ متبوعَه، فيرجّحه بظنٍّ ظنّه، وإِنْ لم يكنْ معه برهانٌ على ذلك، وقد يفضي إِلى تحاجِّهم وقتالِهم وتفرقهم، وهذا ممَّا حرّمَ اللهُ ورسولُه ... وأمَّا مَنْ ترجح عنده فضلُ إِمامٍ على إِمامٍ، أو شيخٍ على شيخٍ بحسبِ اجتهادِه، كما تنازع المسلمون أيّهما أفضل الترجيعُ في الأذان، أو تركه؟ .. فمَنْ ترجّحَ عنده تقليدُ الشَّافعي لم ينكرْ على مَنْ ترجّح عنده تقليدُ مالكٍ ... ولا أحدَ في الإِسلامِ يجيبُ المسلمين كلَّهم بجوابٍ عامٍّ: إِنَّ فلانًا أفضل مِنْ فلانٍ، فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنَّه مِن المعلَومِ أنَّ كلَّ
(١) صفة الفتوى (ص/ ٧٤). وانظر في تفضيل مذهب الإمام أحمد: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (١/ ٩ وما بعدها)، ومناقب الإِمام أحمد لابن الجوزي (ص / ٦٦٠ - ٦٦٨)، ومجموع فتاوى شيخ الإِسلام (٢٠/ ٢٩)، والرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ ٣٩ - ٤٩)، والتحبير (٨/ ٤١٥٠)، والمدخل إِلى مذهب الإِمام أحمد لابن بدران (ص/ ١٠٣ - ١١١).