للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحكمة في تشبيه رؤية الله برؤية الشمس والقمر]

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) حديث صحيح متفق عليه، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما من حديث جرير بن عبد الله، وقد جاء من حديث غيره، لكن هذا اللفظ في حديث جرير بن عبد الله يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وهو من أصح الأحاديث.

وقد أجمعت الأمة على قبوله وتلقيه بالقبول.

وفيه إثبات رؤية المؤمنين لله عز وجل: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر) والمشار إليه هو القمر المعروف الذي في السماء، وفي بعض الروايات: (كما ترون الشمس ليس دونها سحاب، والقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) أي: لا يلحقكم ضيم في رؤيته، بل ترونه في سعة، وفي رواية أخرى: (لا تضامّون في رؤيته) أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض لتروه بل هو جلي واضح؛ فالناس إذا أرادوا أن يتراءوا الشمس، هل يحتاج أحدهم أن يقترب إلى الآخر حتى يرى الشمس أم أن كل واحد يراها وهو منفرد عن الآخر بدون تضام واجتماع؟ وهل يلحقهم ضيم في رؤيتها؟ لا، فمن أوسع ما يكون رؤية القمر والشمس، أما رؤية الهلال في أول إهلاله فيحتاج الناس فيه إلى تضام حتى يروه في الغالب، لذلك تجد أحدهم يقترب من الآخر ليريه مكان الهلال، وكذلك يحصل عليهم ضيم؛ لأن إدراكه ليس بالأمر السهل، أما رؤية الشمس والقمر فإنه لا تضام فيها ولا ضيق على أهلها؛ ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا القمر والشمس لأمرين: الأمر الأول: أنهما أعظم ما يرى في الدنيا، فأعظم ما يراه أهل الدنيا وأوضحه الشمس والقمر.

الثاني: أن كيفية رؤية الشمس والقمر من أسهل ما يكون، فيراها الحاضر والبادي، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، فليس هناك إشكال في رؤيته، فلا عسر في الرؤية، فهي من أسهل ما يكون، فاجتمعت سهولة الرؤية ووضوحها، فالوضوح من أوضح ما يكون، والسهولة واليسر من أسهل وأيسر ما يكون، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) .

يقول رحمه الله: (وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي) ، أي: فلو قال قائل: إن هذا تمثيل، فقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بالقمر.

نقول: لا، ليس التشبيه للمرئي بالمرئي، إنما التشبيه للرؤية، فالكاف في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون) لتشبيه الرؤية، ولذلك قال: (كما ترون) ؛ (ما) : هنا مصدرية، و (ترون) فعل، ما المصدرية والفعل الذي بعدها تؤول بمصدر تقديره: كرؤيتكم، هذا معنى قوله رحمه الله: (هذا تشبيه للرؤية) ، فالمعنى: إنكم سترون ربكم كرؤيتكم القمر، أي: في الوضوح وعدم التضام والضيق في الرؤية، فالتشبيه للرؤية لا للمرئي، أما الله جل وعلا فليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

قال رحمه الله: (فإن الله لا شبيه له ولا نظير) .

أي: لا مثيل له ولا مساو؛ لأن الله تعالى نفى عن نفسه الند والنظير والمثيل والكفء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:٤] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] ، فليس له ند، ولا يمكن أن يمثل بغيره، كما قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤] .

فلا يجوز أن يقال: المرئي كالمرئي فالله تعالى كالقمر، بل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] .

<<  <  ج: ص:  >  >>