[من عقيدة أهل السنة الحج والجهاد مع كل إمام]
ثم قال رحمه الله: (ونرى الحج والجهاد ماضيين مع طاعة كل إمام، براً كان أو فاجراً) ، وهذا بيان لعقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الشأن، وهو ما يتعلق بنظر أهل السنة والجماعة للأئمة، وهم ولاة الأمر الذين يتولون أمر أهل الإسلام، وذكر الحج والجهاد لأن الحج والجهاد من الأعمال التي لا بد فيها من اجتماع، ولا بد لكل اجتماع من أمير، يصدر عن رأيه، ويرجع إليه في تدبير شأنه، فذكر الحج والجهاد ليس قصراً على هذين العملين، بل هو نموذج للأعمال التي تحتاج إلى اجتماع ولأنها من العبادات التي يحتاج فيها الناس إلى رأي، وإلى أمير يأتمرون به، ويقتدون بعمله، ويسيرون خلفه يرتبهم وينظمهم ويدير شئونهم ويصلح أمورهم: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا فلا بد للناس في مثل هذه الاجتماعات من تدبير، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على مضي الجهاد والحج مع كل أمير براً كان أو فاجراً.
قوله: (نرى الحج والجهاد ماضيين) أي: قائمين، لا يجوز إبطالهما، ولا التوقف عنهما لفساد من يتولاهما أو لتقصيره.
قوله: (براً كان أو فاجراً) براً: أي قائماً بالطاعة، عاملاً بها، عادلاً بين الخلق، أو فاجراً: أي فيما يتعلق بنفسه أو فيما يتعلق بولايته، ففيما يتعلق بنفسه كأن يكون شارباً للخمر، أو زانياً، أو غاشاً، وفيما يتعلق برعيته كالغاش، أو الذي يظلم ويأخذ حقوق الناس، فإن هذا يجب له من الطاعة ما يجب لغيره من ولاة الأمر، لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب الاجتماع والطاعة حتى ولو حصل التقصير من ولي الأمر.
وهذا مما تميز به أهل السنة والجماعة، وإنما تميزوا به لاستمساكهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولاستمساكهم بما أرشد إليه الله عز وجل من الاعتصام بحبله، والاجتماع على طاعته، وحذراً وتجنباً لما نهى عنه من الفرقة والاختلاف، فإن الله سبحانه وتعالى نهى عن الفرقة والاختلاف، ولو أن كل أحد رأى من أميره أو إمامه أو وليه ما يكره من المعصية، فجعل ذلك مسوغاً لنزع يده عنه وعدم طاعته لما استقام الأمر لأحد؛ لأنه ما من أحد إلا ويخطئ، وما من أحد إلا وعنده تقصير، والتقصير يتفاوت؛ لكن ينبغي للمؤمن أن يصبر على الخطأ، وأن لا يوافق على المعصية، ومع هذا فينبغي ألا ينزع يداً من طاعة كما دلت على ذلك النصوص المتواترة.
يقول رحمه الله: (وصلاة الجمعة خلفهم جائزة) ، صلاة الجمعة يقع بها الاجتماع خلفهم مع فجورهم وتقصيرهم، فهي: (جائزة) أي: تبرأ بها الذمة، وفي قوله: (جائزة) رد على من يرى أنه لا تجوز الصلاة خلف أئمة الجور، ولا يعني أن الإنسان مخير بين أن يصلي أو لا يصلي، بل الواجب عليه أن يصلي خلفه، وذكر الجواز هنا لا لاستواء الطرفين، وإنما لرد قول من يقول: إنه لا يصلى خلفهم، وقد صلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الحجاج، وحجوا مع الحجاج مع ظلمه وظهور شره، وقتله لأهل الفضل والعلم، وتسلطه على عباد الله، ومع ذلك لم ينزعوا يداً من طاعة، بل صلوا خلفه وحجوا معه، ولم يكن في ذلك طعن عليهم، بل كانوا في ذلك مهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم متبعين لسنته.
ثم قال رحمه الله: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار) ] فاجتمع لنا في هذا الحديث ثلاث خلال الصفة الأولى: الكف عمن قال لا إله إلا الله، ثم بين معنى الكف فقال: ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل؛ فهذا معنى الكف عمن قال: فلا إله إلا الله، لا نكفره بذنب ما لم يكن هذا الذنب مكفراً، ودلت النصوص على أنه كفر، ولا نخرجه من الإسلام بعمل ما لم تدل النصوص الأخرى على أنه من الكفر والشرك الذي يخرج به الإنسان عن ملة الإسلام.
ثم قال: (والجهاد ماض) ، أي: مستمر لا ينقطع ولا يقف، (منذ بعثني الله عز وجل حتى يقاتل آخر أمتي الدجال) ، وذلك بقيادة عيسى بن مريم عليه السلام، يقول: (لا يبطله) أي: لا يبطل الجهاد (جور جائر) أي: ظلم ظالم (ولا عدل عادل) بل هو ماض باق إلى قيام الساعة.
قال: (والإيمان بالأقدار) هذا ثالث الأصول التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، قال المؤلف رحمه الله: [رواه أبو داود] ، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وسكت عنه، وقد ذكر أبو داود في سننه أن ما رواه وسكت عنه فإنه حسن عنده، إلا أن هذا الحديث في بعض رجاله بعض المقال الذي يقصر به عن درجة الصحاح، وما جاء فيه من خلال هي خلال تشهد لها الأحاديث الأخرى فلا إشكال فيما تضمنه من المعاني، ثم ذكر المؤلف رحمه الله ما يجب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، ونؤجل ذلك إن شاء الله إلى الدرس القادم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.