وذلك أن القدر انقسم الناس من حيث الإيمان به إلى طوائف: فطائفة غلت في إثبات القدر، وجعلت كل ما يكون من الإنسان وما يقع في هذا الكون محبوباً لله عز وجل مرضياً، فكل ما في الكون هو محبوب لله جل وعلا عندهم، وهو فعله ومشيئته، ولا فعل للإنسان ولا مشيئة ولا إرادة، فألغوا فعل الإنسان ومشيئته واختياره وإرادته، وقالوا: كل ما في الكون إنما هو فعل الله ولا فعل لغيره، ومشيئة الله ولا مشيئة لغيره، فاحتجوا بالقدر وبما يقع من قضاء الله وقدره على أمره ونهيه ودينه وشرعه، فجعلوا القدر حجة لإبطال الشرع، وهؤلاء إمامهم فيما ذهبوا إليه إبليس، حيث قال كما حكى الله عنه:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}[الأعراف:١٦] ، فأضاف الإغواء إلى الله عز وجل، واحتج بإغواء الله له جل وعلا وعدم هدايته على فعل نفسه، وعلى صحة ما هو عليه، فزاده ذلك من الله جل وعلا بعداً وعذاباً.
وقد سلك هذا المسلك أهل الشرك أيضاً: فاحتجوا بالقدر على معصية الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عنهم:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[الأنعام:١٤٨] ، فأخبر الله جل وعلا عما سيقوله المشركون من أن ما يقع منهم من الشرك وتحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله؛ أن ذلك واقع منهم بمشيئة الله عز وجل، فاحتجوا بالقدر والقضاء على مخالفة أمر الله جل وعلا في توحيده وإفراده بالعبادة، وقد كذَّبهم الله جل وعلا في ذلك.
كما أن هذه الحجة هي حجة أهل التفريط والتقصير الذين أسرفوا على أنفسهم يوم القيامة، فإن مما ذكر الله جل وعلا من أقوالهم:{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}[الزمر:٥٧] ، فلم ينفعهم ذلك في دفع عذاب ولا رفع عقاب، وقد قال أهل الشرك كذلك: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:٣٥] ، ولما دعاهم جل وعلا وأمرهم بالإنفاق والإطعام والصدقة قالوا كما قال تعالى حاكياً عنهم:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس:٤٧] وكما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس:٤٧] فاحتجوا بالقدر على إبطال الأمر والنهي وعلى إبطال الشرع، وهذا من أخبث وأخطر الأقوال وأرداها؛ لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة.